المسيح الدجال
فتنته وعلاقته بابن صياد
إعداد
الدكتور / محمد احمد المبيض
ملاحظة / هذا البحث جزء من سلسلة طويلة من الأبحاث المتعلقة بالفتن والملاحم
=r =عليه الصلاة والسلام،
توطئـة :
- تواترت الأحاديث الدالة على خروج رجل في آخر الزمان يعرف بالدجال ، وهذا الرجل تكون فتنته هي أعظم فتنة عرفتها البشرية ، وتوافق فتنته بعض الخوارق التي تؤتى له من باب الاستدراج للنفوس الضعيفة ، وتدوم فتنته في الأرض أربعون يوماً : يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع ، وباقي أيامه كسائر الأيام . ينقل النووي عن القاضي عياض بخصوص أحاديث فتنة الدجال قوله : » هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده ، وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى في إحياء الميت الذي يقتله ، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه ، و جنته وناره ونهريه واتباع كنوز الأرض له ، وأمره السماء أن تمطر فتمطر ، و الأرض أن تنبت فتنبت ، فيقع كل ذلك بقدرة الله ومشيئته ، ثم يعجزه الله سبحانه وتعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ، ويبطل أمره ويقتله عيسى r =عليه الصلاة والسلام، ويثبت الله الذين آمنوا ، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافاً لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة ، وخلافاً للبخاري المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم أنه صحيح الوجود ، ولكن الذي يدعي مخارف وخيالات لا حقائق لها ، وزعموا أنه لو كان حقاً لم يوثق بمعجزات الأنبياء ، وهذا غلط من جميعهم لأنه لم يدع النبوة ، فيكون ما معه كالتصديق له ، و إنما يدعي الإلهية ، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه ، ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي بين عينيه . « أ . هـ ([1])
- ذهب بعض أهل العصر إلى مقولة غريبة ، فأول أحاديث الدجال تأويلاً فاسداً لا يستقيم ، واعتبر أن المراد بها ليس شخصاً بعينه بل المقصود بها الحضارة الغربية ، لأنها حضارة عوراء لا تعتمد إلا على الجانب المادي فقط ، وهذا تأويل فاسد يكفر من يعتقده ؛ لأن النصوص على صراحتها لا تحتمله ، وهي نصوص متواترة والإجماع منعقد على أنه يراد بها شخص بعينه .
ولو استخدم معول التأويل في النصوص على هذه الشاكلة لما بقى نص على ظاهره ، ومن نظر إلى تاريخ الفرق – خاصة الفرق الباطنية – يجد أن أهم أسباب وقوعها في الكفر هو اعتمادها مثل هذه التأويلات الفاسدة التي أخرجت النصوص عن طبيعتها .
هذا ومن ينظر إلى مجموع أحاديث الدجال يعلم علم اليقين أن مثل هذه التأويلات لا تستقيم بحال ، وتخالف صريح المنقول .
من تتبع النصوص الواردة في المسيح الدجال يجد أننا أمام قسمين :
القسم الأول : لا يترتب على معرفة دقائقه نتيجة عملية واضحة .
ويشمل ظاهرة ابن صياد وقصة تميم الداري ، وهذا القسم في فهمه إشكالات كثيرة ، وقد أشكل على الكثير من العلماء فانقسموا إلى عدة آراء ما بين مرجح لبعض النصوص على غيرها كالبخاري الذي رجح أحاديث ابن صياد على أحاديث الجساسة ، فلم يخرج أحاديثها ، وبين من حاول الجمع بين الأحاديث كالنووي وابن حجر مع اختلاف بينهم في طريقة الجمع .
وهذا القسم لا يعنينا إلا من وجه واحد ، وهو محاولة فهم بعض النصوص النبوية الواردة ، أو فهم بعض المواقف الحاصلة من الصحابة الكرام ، أما في حياتنا العملية فلا أثر كبير له .
وبالرغم من طبيعة هذا القسم إلا أنني آثرت التوسع فيه لأسباب عدة منها : محاولة فهم الظاهرة بشكل تكاملي ، و إقفال الباب على البعض في استغلال النصوص في غير موضعها ، يضاف إلى ذلك فهم جزء من الهدي النبوي المخـرج في الصحاح و الذي أشكل على البعض فهمه .
القسم الثاني : ما يخص ظاهرة خروج الدجال وطبيعة فتنته .
وهذا القسم هو الذي يعنينا من الناحية العملية مع ظاهرة الدجال ، والأصل في كل مسلم أن يكون على دراية به و بملابساته ؛ ليكون محصنا من الناحية العلمية فيما يخص أعظم فتنة على وجه الأرض ، وليكون أهلاً لاحترام الهدي النبوي في التحذير من هذه الفتنة .
القسم الأول : ابن صياد وقصة تميم
وهذا القسم سأتناوله في مبحثين ، وذلك على النحو التالي :
المبحث الأول
ظـاهرة ابن صـياد
تعتبر ظاهرة ابن صياد ظاهرة غريبة جداً عايشها الرسول والصحابة الكرام ، وقد أقسم عدد من كبار الصحابة على أنه المسيح الدجال الذي حذر منه الرسول الكريم ، وكان يرى جمع كثير منهم أنه كذلك ، وهذا الأمر يستوقفنا لتحليل هذه الظاهرة و إبراز وجه الغرابة فيها بشيء من التفصيل ، وذلك في المطالب الثلاثة التالية :
المطلب الأول : ابن صياد في عهد النبي r
/ - ورد عن أبي ذر t أنه قال : » لَأَنْ أَحْلِفَ عَشْرَ مِرَارٍ أَنَّ ابْنَ صَائِدٍ هُوَ الدَّجَّالُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ . قَالَ : } وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r بَعَثَنِي إِلَى أُمِّهِ قَالَ : سَلْهَا كَمْ حَمَلَتْ بِهِ ؟ قَالَ فَأَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ : حَمَلْتُ بِهِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ؟ قَالَ : ثُمَّ أَرْسَلَنِي إِلَيْهَا فَقَالَ : سَلْهَا عَنْ صَيْحَتِهِ حِينَ وَقَعَ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ : صَاحَ صَيْحَةَ الصَّبِيِّ ابْنِ شَهْرٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r : إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبْئًا قَالَ خَبَأْتَ لِي خَطْمَ شَاةٍ عَفْرَاءَ وَالدُّخَانَ قَالَ : فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ الدُّخَانَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ : الدُّخُّ الدُّخُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : اخْسَأْ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ . { ([2])
شرح :
موافقة حال ابن صائد للأمارات التي سأل عنها النبي r ، وسؤال النبي r عن أمارات محددة لا بد أن يكون مرجعه الوحي وله علاقة واضحة بأمارات الدجال ،
ولكن الكلام يحتمل أن يراد به دجال من الدجاجلة وليس الدجال الأكبر .
جزم أبي ذر في أن ابن صياد هو الدجال ، وعدم تورعه من القسم بذلك تسع مرات مع تورعه من القسم بأنه ليس الدجال ولو مرة واحدة ، يدل على أنه قد حصل له من الدلائل التي عاينها مع رسول الله r ما يؤكد على ذلك منها ما ذكر ، ولعل أبا ذر رأى من سياق الحدث وتفاعل الرسول معه ما يؤكد ذلك . (_ )
يلحظ من الحديث أن النبي r كان مهتماً بظاهرة ابن صائد اهتماماً خاصاً ، ومعنياً بتتبع تفاصيلها ، ويدل السياق على أن طبيعة أسئلة النبي r عن أشياء مخصوصة لأم ابن صياد إنما مرجعه الوحي .
/ - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } يَمْكُثُ أَبُو الدَّجَّالِ وَأُمُّهُ ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ ، ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضَرُّ شَيْءٍ ، وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً ، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، ثُمَّ نَعَتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ r أَبَوَيْهِ فَقَالَ : أَبُوهُ طِوَالٌ ضَرْبُ اللَّحْمِ كَأَنَّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ ، وَأُمُّهُ فِرْضَاخِيَّةٌ طَوِيلَةُ الْيَدَيْنِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ : فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ فِي الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ ، فَإِذَا نَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ r فِيهِمَا فَقُلْنَا هَلْ لَكُمَا وَلَدٌ فَقَالَا : مَكَثْنَا ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ ، ثُمَّ وُلِدَ لَنَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضَرُّ شَيْءٍ وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ، قَالَ فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمَا فَإِذَا هُوَ مُنْجَدِلٌ فِي الشَّمْسِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ وَلَهُ هَمْهَمَةٌ فَتَكَشَّفَ عَنْ رَأْسِهِ فَقَالَ : مَا قُلْتُمَا . قُلْنَا : وَهَلْ سَمِعْتَ مَا قُلْنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي . {وفي رواية الإمام أحمد } ..فَقَالَ أَبُوهُ – أي الدجال - رَجُلٌ طُوَالٌ مُضْطَرِبُ اللَّحْمِ طَوِيلُ الْأَنْفِ كَأَنَّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ
وَأُمُّهُ امْرَأَةٌ فِرْضَاخِيَّةٌ عَظِيمَةُ الثَّدْيَيْنِ . { ([3])
شرح الغريب :
طوال : شديد الطول . ضرب اللحم : خفيف اللحم
فرضاخية : ضخمة . منجدل : ملقى على الجدالة ، وهي الأرض
همهمة :كلام غير مفهوم .
شرح :
الأثر فيه إشارة عجيبة ، وهي أن النبي r قد تحدث عن بعض أوصاف الدجال وأوصاف والديه ، وقد وجدت هذه الأوصاف بصورة مطابقة في ابن صياد ووالديه ، ولكن ليس في الحديث دلالة على أنه الدجال صاحب الفتنة العظمى ، و إن كان الحديث يعزز هذا الرأي ، ولكنه يحتمل أن النبي r قد أُبلغ عن أوصاف دجال من الدجالين فنعتها النبي r لصحابته ، ثم تبين أن المراد منها ابن صياد ، وعلى هذا الاحتمال يكون الوصف في الحديث لا يراد به الدجال الأكبر .
يتضح من حال ابن صياد أنها تخالف حال البشر الأسوياء في الشكل والمضمون ، وهذا واضح من كونه تنام عيناه و لا ينام قلبه ، وهذا الأمر مخالف لطبيعة البشر ، وهي خارقة من خوارق ابن صياد العديدة .
دلالة الحديث تشير إلى أن أبا بكرة – راوي الحديث بعدما سمع عن الدجال وأوصافه سمع بمولود في المدينة عند اليهود له نفس الأوصاف وكلمة مولود تشير إلى قرب ولادته ، فيكون مقتضى الحديث أنه ولد إما في السنة الثانية أو الثالثة من الهجرة ، وهذا المقتضى يتعارض مع حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي سيأتي ، والذي يدل على أن النبي r قد ذهب إلى ابن صياد وقد قارب الحلم ؛ أي البلوغ ، مما يدل على أنه ولد إما في بداية العهد النبوي ، أو قبله بقليل وهو ما أرجحه ؛ إذ كيف يكون ولد في هذا الوقت ، وقد ثبت أن النبي التقى مع ابن صياد وقد قارب البلوغ والمعلوم أن مدة النبي r في المدينة كانت عشر سنوات تقريباً .
والراجح عندي في هذه المسألة هو حديث ابن عمر رضي الله عنهما التالي ؛ فإنه قد رواه مسلم في صحيحه ، أما حديث أبي بكرة فهو وإن اعتبره الترمذي حديثاً حسناً إلا أن فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ليس بالقوي كما صرح ابن حجر وغيره ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن إسلام أبي بكرة وقدومه للمدينة كان في سنة الفتح ؛ أي سنة ثماني للهجرة ، فكيف يكون قد التقى بابن صياد وهو قريب ولادة ، وفي نفس الوقت التقى به النبي r في نفس المدة وهو قد قارب البلوغ .
لذا ترجح روايات مسلم عن ابن عمر على حديث أبي بكرة t عند الترمذي وأحمد ، وهناك وجه للجمع بين الحديثين وهو أن قول أبي بكرة بأنه سمع بمولود عند اليهود لا يراد به قرب الولادة ، بل للدلالة على حصول ولد عندهم بهذه الأوصاف.
ويعزز هذا الاحتمال أمران :
الأمر الأول :
إن أبا بكرة عندما ذهب لابن صياد حصل بينهم كلام مما يدل على أن ابن صياد كان كبيراً نوعا ما ، وإلا لا يتصور مثل هذا الكلام من قريب ولادة .
الأمر الثاني :
لاحظنا من سياق الحديث أن أم ابن صياد عندما سئلت عن ابنها قد أخبرت بأنها وُلِدَ لها غلام أعور أضر شيء وأقله منفعة ، ومعرفة الأم لوضع ابنها بأنه أقله منفعة لا يتأتى وهو قريب ولادة ، إذ لا يتصور منه النفع في ذلك الوقت ، لكن إذا كبر الولد وبدأ الأهل يطلبون منه بعض الأشياء عندها يتضح لهم إذا كان كبير نفع أو قليله ، وهذا لا يتصور إلا إذا قارب الولد البلوغ ، ففي مثل هذه السن يرجى نفعه ؛ لذا كانت زيارة أبي بكرة له في السنة الثامنة ، وهو قريب من البلوغ ، وهذا الوجه محتمل ، وبه يمكن الجمع بين الأحاديث .
/ - عن ابْنَ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا : } أَنَّ عُمَرَ t انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ r فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ r بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ : تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ . فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ . فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ r : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، فَرَفَضَهُ ، وَقَالَ : آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ . فَقَالَ لَهُ : مَاذَا تَرَى ؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ r خُلِّطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ r : إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا . فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ : هُوَ الدُّخُّ فَقَالَ : اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ . فَقَالَ عُمَرُ t : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ . فَقَالَ النَّبِيُّ r : إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ ، وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ r وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا ، قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ ، فَرَآهُ النَّبِيُّ r وَهُوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ ، فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ r وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ : يَا صَافِ –وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ – هَذَا مُحَمَّدٌ r فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ r لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ .{ ([4])
وفي رواية قَالَ النَّبِيُّ r لابن صائد : } مَا تَرَى قَالَ أَرَى عَرْشًا فَوْقَ الْمَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ r تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ فَوْقَ الْبَحْرِ قَالَ فَمَا تَرَى قَالَ أَرَى صَادِقًا وَكَاذِبِينَ أَوْ صَادِقِينَ وَكَاذِبًا قَالَ النَّبِيُّ r لُبِسَ عَلَيْهِ . { ([5]) وفي رواية : } ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r - أي لابن صائد - إِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئَةً وَخَبَّأَ لَهُ ( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَـاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ : هُوَ الدُّخُّ . { ([6])
وفي رواية : قال رسول الله r لابن صائد : } قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَ الْغُلَامُ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا مَرَّتَيْنِ .{ ([7])
/ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لِابْنِ صَائِدٍ : } مَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ قَالَ : دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ مِسْكٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ : صَدَقْتَ . { ([8])
/ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ t قَالَ : ذُكِرَ ابْنُ صَيَّادٍ عِنْدَ النَّبِيِّ r فَقَالَ عُمَرُ t : ) إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا كَلَّمَهُ (([9])
شرح :
هذه الأحاديث برواياتها المتعددة والحديث الذي سبقه يتطلب منا بعض الوقفات المعينة على فهم ظاهرة ابن صياد وعلاقتها بالدجال الأكبر .
الوقفة الأولى : ظاهرة ابن صياد وعلاقتها بالدجال الأكبر .
لكي تتضح لنا حقيقة ظاهرة ابن صياد ، ولكي لا تختلط علينا الأوراق في فهم علاقتها بظاهرة الدجال الأكبر أرى أن أرتب فهمي لمدلولات سياق روايات هذه الأحاديث والحديث الذي يسبقه على النحو التالي :
يتضح من سياق هذه الحديث والتي سبقتها أن النبي r قد أُخبر عن طريق الوحي بأن هنالك فتنة عظيمة تكون على يد الدجال هي أعظم فتنة على وجه الأرض ، لكن كان الوحي مجملاً في بيان حقيقة الدجال و اقتصرت على بيان صفاته ؛ أي لم يكن النبي r يعلمه على وجه الخصوص ، أو يعلم وقت خروجه ، فأخبر صحابته الكرام عنها بصيغة مجملة ، وكان من سياق بعض الأحاديث الواردة عن الدجال ما يشير إلى قرب خروجه ، منها ما ورد عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ t قَالَ : } ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ r الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟ قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ فَقَالَ : غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. ( ([10])
فهذا الحديث يشير إلى أن النبي r لم يكن يعلم عند ذكر هذا الحديث وقت خروجه ، وسياقه يشير إلى أن النبي r كان يرى قرب خروجه حتى قال بعض الصحابة » حتى ظنناه في طائفة النخل « ، وبالتالي كان عدد من الصحابة يرون أن خروجه قريب جداً .
يضاف إلى ذلك أن النبي r أُخبر عن طريق الوحي عن أوصاف أحد الدجالين وطبيعة ميلاده وأبويه كما يتضح من الحديث الأول ، فأخبر صحابته بذلك ، فعندما رأوا هذه الأوصاف تنطبق على ابن صياد جاءوا إلى النبي r وأخبروه به ، وأخبروه ببعض أعاجيبه ؛ فأراد النبي r أن يعلم خبره ، ودلالة الحديث تشير إلى أن النبي r كان متوقفاً في الحكم عليه ؛ أي لم يكن عند النبي r بيان من الوحي أن ابن صياد هو الدجال الأكبر بعينه أم هو دجال من الدجالين ، ودلالة الحديث على ذلك واضحة عندما طلب عمرt من النبي r أن يقتل ابن صياد فقال له الرسول r : إن يكنه فلن تسلط عليه ، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله ، والدلالة واضحة بأن النبي r لم يقطع بأنه الدجال أو غيره ، وسنلحظ أن توقف النبي r عن الجزم بحقيقة ابن صياد سيكون له أثره على عمر بن الخطاب t؛ وعلى رأيه في شأن ابن صياد .
يتلخص مما سبق تصور طبيعة الحديث النبوي عن الدجال مقارنة مع تطور مجريات الأحداث ، ففي بداية العهد المدني كان الكلام عن الدجال عاما مجملاً مع تصور قرب خروجه – وافق الكلام عن الدجال الحديث عن ميلاد دجال لأبوين لهما أوصاف محددة – مطابقة الأوصاف التي ذكرها النبي على ابن صياد – تَعَرُّف بعض الصحابة على ابن صياد وغرائبه مما أكد لديهم كونه الدجال الذي يعنيه النبي r في أحاديثه – تبليغ النبي r بخبر ابن صياد وعجائبه – تحرك النبي r لمعرفة حقيقة ابن صياد وتوقفه في الحكم عليه مما يدل إلى أنه ليس هناك قول فصل من الوحي فيما يخص ابن صياد هل هو الدجال الأكبر أم غيره وإن كانت قرائن حاله محتملة للأمر – وقوع قصة تميم و إقرار النبي r لها مما يشير إلى أن الدجال الأكبر ليس هو ابن صياد ، وإنما هو دجال من الدجالين - تعيين الوحي للنبي r عن إمارات ومكان خروج الدجال .
هذا في ظني هو بيان لتدرج الإرشاد النبوي عن ظاهرة الدجال من الإجمال إلى التفصيل وتداخل ظاهرة ابن صياد معها ، ومن نظر نظرة متفحصة لمجموع الأحاديث السابقة يحصل له هذا التصور التدريجي لهذه الظاهرة ، لكن سنلحظ أن ظاهرة ابن صياد ستبقى محافظة على قرائن قوية معززة لكونه الدجال الأكبر بالرغم من ورود قصة تميم عن الدجال الذي رآه ، وهذا يزيد من غرابة هذه الظاهرة .
الوقفة الثانية : غرابة ظاهرة ابن صياد :
من تتبع روايات الأحاديث السابقة يجد نفسه أمام ظاهرة غريبة جداً وقعت مع غلام صغير ويظهر من سياق الحديث أن غرائب ابن صياد كانت أكثر من ذلك ، ولعل النبي r قد سمع من صحابته الكثير ؛ لذا جـاء ليستبين أمره ، فكانت هذه الغرائب التي
رآها في لقاء واحد ، والتي يمكن إجمالها في التالي :
إخباره عن عرش إبليس في الماء .
معرفته بعض ما يضمر النبي r فيما يخص آية الدخان
إخباره عن تربة الجنة و إقرار النبي r له .
زعمه أنه لا يمر على شيء إلا حدثه .
إخباره عن صادق وكاذبين أو كاذب وصادقين ، وفي هذا الإخبار قال النبي r أنه لُبِّسَ عليه .
هذه بعض غرائب ابن صياد – و سيأتي بيان وقوع غيرها مع ابن صياد والصحابة - ولو نظرنا إليها لوجدنا أنها تعزز كون ابن صياد هو الدجال ؛ إلا أنها ليست جازمة في الدلالة ؛ لأنها عبارة عن حالة شيطانية من جنس الأحوال الشيطانية التي يقع فيها السحرة والكهان ؛ فرؤيته لعرش إبليس يدل على أنه له علاقة شيطانية خاصة تمكنه من رؤية أشياء مخصوصة ، ولعل الشيطان يكون في تلك الحالة قد تلبسه بالكامل ، وأعانه على تلك الرؤيا ، أما إخباره عن بعض ما يضمر النبي r بقوله : هو الدخ ، فواضح أنه من جنس ما يقع للكهان بفعل الشيطان ؛ لذا قال له النبي r مباشرة اخسأ فلن تعدو قدرك ؛ أي لن تجاوز قدرك وقدر الكهان أمثالك الذين يحفظون من إلقاء الشياطين كلمة من جمل كثيرة .
ومثل هذه الأحوال الشيطانية يتكرر مثلها على مر العصور ، و قد يزيد بعضهم عن قدرة ابن صياد إلا أنها واضحة في أنها حال شيطاني ، ومن هذه الأحوال ما كان يقع للأسود العنسي الذي ادعى النبوة ، فقد كانت تأتيه الشياطين تخبره ببعض الأمور المغيبة – وليست الغيبية – فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين كفره فقتلوه .
ومنهم الحارث الدمشقي الذي خرج زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة ، وكانت الشياطين تمنع السلاح أن ينفذ فيه ، وكانت تخرج رجليه من القيد .
ومنهم من كانت تطير به الجن في الهواء وتنقله إلى أماكن بعيدة ، ومنهم من كان يكاشف بعض الحاضرين بما في قلبه … إلخ ([11])
و لعل الذي يميز هذه الأحوال الشيطانية عن بعض ما يحصل من كرامات للصالحين أن أحوالهم الشيطانية في الغالب تقترن بالمعاصي أو المنكرات أو ما يدل على أنهم من أولياء الشيطان، ووقوعها يكون من باب الاستدراج لأصحاب النفوس الضعيفة .
إذا يتضح لنا أن غرائب ابن صياد ليس فيها دلالة صريحة على أنه الدجال ، وإن كانت تعزز ذلك .
الوقفة الثالثة : لِمَ لَمْ يأذن النبي r لعمر t بقتل ابن صياد .
يتضح لنا من الأحاديث السابقة أن النبي r منع عمر t من قتل ابن صياد ، والسبب بينه النبي r بأن هناك احتمالين في ظاهرة ابن صياد :
الاحتمال الأول :
إما أن يكون ابن صياد هو الدجال الأكبر ، وفتنته لا محالة واقعة لأنها جزء من قضاء الله وقدره الحتمي ، وبالتالي لن يستطيع عمر t أن يسلط عليه بقتله .
الاحتمال الثاني :
هو أن لا يكون ابن صياد الدجال الأكبر ؛ لذا لا يكون في قتله خير لعمر t لأن ابن صياد غلام لم يبلغ الحلم بعد .
وهناك تعليل آخر بأن هناك مهادنة كانت بين يهود المدينة والنبي r ؛ فيكون في قتل ابن صياد وهو صبي من اليهود مدعاة لإثارة الفتنة ، وأرى أن التعليل الأخير بعيد ، خاصة إذا علمنا أن ظاهرة ابن صياد قد أثيرت في مراحل متأخرة من العهد المدني كما يتضح من سياق بعض الأحاديث ، وفي هذه المرحلة كانت قد انتهت كل المعاهدات بين النبي r وبين يهود المدينة ، والتي كان آخرها في السنة الخامسة بعد غزوة الخندق وغزوة بني قريظة .
الوقفة الرابعة : لِمَ حرص النبي r على تتبع أحوال ابن صياد ومعرفة خبره .
كما ذكرت سابقاً أن أحوال ابن صياد قد شاع ذكرها في المدينة واختلط الفهم في توصيفها ؛ لذا وجد النبي r بصفته إمام الأمة ونبيها ضرورة في امتحان ابن صياد وكشف حاله للصحابة الكرام في أن ما يقع معه هو إما ضرب من ضروب الكهانة ، أو حال شيطانية رافقته ؛ وبالتالي يمكن تفسير حرص النبي r على معرفة حقيقة ابن صياد أنه من باب كشف أحوال من يُخاف مفسدته ، ويتوقع منه إثارة الفتن بين المسلمين .
إشكــــــــال
لمـاذا لم يحسم النبي r القول في حقيقة ابن صياد ليتضح أمره للصحابة ؟
/ - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ t قَالَ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي مُسَيْلِمَةَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ r فِيهِ شَيْئًا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ r خَطِيبًا فَقَالَ : } أَمَّا بَعْدُ : فَفِي شَأْنِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ أَكْثَرْتُمْ فِيهِ ، وَإِنَّهُ كَذَّابٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كَذَّابًا يَخْرُجُونَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَلْدَةٍ إِلَّا يَبْلُغُهَا رُعْبُ الْمَسِيحِ إِلَّا الْمَدِينَةَ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهَا مَلَكَانِ يَذُبَّانِ عَنْهَا رُعْبَ الْمَسِيحِ . { ([12])
الشاهد في الحديث :
الحديث يتكلم عن فتنة مسيلمة الكذاب ، والملاحظ من سياقه أن الصحابة أكثروا القول فيه ، فما كان من النبي r إلا أن بين حقيقة هذا الرجل بأنه كذاب من ثلاثين كذاب آخرهم المسيح الدجال ، وهذا الحديث يبرز منهج النبي r في شأن هؤلاء الكذابين ، وهو بيان حقيقتهم لئلا يلتبس على الناس أمرهم .
أما في قصة ابن صياد فقد ثبت أن النبي r قد توقف فيها ، ولم يقطع بكونه الدجال أو غيره ، ولم ينقل لنا عدول النبي r عن توقفه بخصوصه ، حتى بعد قدوم تميم ، مع أن المقام مقام بيان في أمر نال اهتماماً كبيراً من رسول الله r ، وأكثر الناس القول فيه .
بل دواعي بيان حقيقة ابن صياد أقوى من بيان حقيقة مسيلمة ، وذلك لسببين هامين :
السبب الأول :
ملاحظة النبي r للالتباس الشديد الذي وقع فيه كبار الصحابة في شأن ابن الصياد ، وسمع بنفسه قسم عمر t بالجزم في أنه الدجال ، وقد يكون هذا القسم وقع من غيره بحضرة النبي r ، ولاحظنا أيضاً موقف أبي ذر ، وسنلاحظ موقف حفصة وابن عمر رضي الله عنهما ، إذا أكثر الصحابة وأكابرهم لُبس عليهم الأمر بشأن ابن صياد ، وهذا مقام يستدعي البيان الشافي في حقه .
السبب الثاني :
المعلوم أن فتنة ابن صياد كانت في قلب المدينة ، ولها علاقة في أذهان الصحابة بأعظم فتنة على وجه الأرض ، والشبهات التي أثيرت حولها شغلت فكر الصحابة ، ونالت الكثير من حديثهم، بينما فتنة مسيلمة فقد كانت بعيدة جداً عن ديار الصحابة .
والسؤال الذي يطرح هنا : لماذا لم يفصل النبي r في القول بشأن ابن صائد ، كما فعل في قصة مسيلمة ، مع أن الدواعي لبيان القول الفصل بشأنه أهم من مسيلمة ؟
وقد يجاب على ذلك بأن النبي r اكتفى في شأنه بما ورد في قصة تميم ، وهذا القول لا يسلم ؛ لأن النبي r وإن أقر تميماً فيما حدث به عن الدجال الموجود في أحد الجزائر ؛ إلا أنه لم يرد عنه أي تصريح بنفي كون ابن صياد أنه الدجال ، وهذا أمر غريب ، خاصة أنه رأى من بعض أصحابه من يقسم بأنه الدجال وكان من حال النبي r التوقف في شأنه قبل ذلك .
أقول : منهج النبي r في ملاحقة أصحاب الفتن وبيان حقيقتهم ، يقتضي قولاً فصلاً بخصوص ابن صياد ، وعدم وجود قول فصل فيه يعتبر قرينة قوية مرجحة أن ابن صياد هو الدجال الأكبر .
وهذا القول يستدعي سؤالاً أخرَ ، وهو ما دام ابن صياد هو الدجال الأكبر ، فلم لم يصدر من النبي r قولاً فصلاً موضحاً لحقيقته ؟
ويجاب عن ذلك أن النبي r اكتفى هنا بالتلميح دون التصريح ، لعدم وجود فائدة ترجى من التصريح ، وحتى لا ينشغل الصحابة في فتنة ليسوا من أهلها أو زمانها ؛ بحيث يكون انشغالهم بما لا ترتجى فائدته ، فتطلبت الحكمة النبوية الاقتصار على التلميح الذي فهم منه كبار الصحابة ، وأقرب الناس من النبي r حقيقة الدجال ؛ أما غيرهم فلا داعي لإشغالهم بذلك .
ويبقى تساؤل في غاية الأهمية : وهو إذا كان ابن صياد هو الدجال ، فما هي حقيقة قصة تميم ؟ حيث إنها تقتضي القول أن الدجال الأكبر مغاير لابن صياد ، وقد أقر النبي r تميم في كل ما أخبر .
وهذا التساؤل غاية في الأهمية وبيانه يفصل القول في حقيقة ابن صياد ، والإجابة عليه مرتبطة بمعرفة حقيقة الدجال ، وهذا بيانه في موضع آخر بعد إتمام موقف الصحابة مع ابن صياد وبيان قصة تميم ثم بيان وجه الجمع بين كل ما ورد .
المطلب الثاني : ابن صياد والصحابة الكرام
/ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ : » خَرَجْنَا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا وَمَعَنَا ابْنُ صَائِدٍ قَالَ : فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ ، وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ ، فَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَدِيدَةً مِمَّا يُقَالُ عَلَيْهِ ، قَالَ : وَجَاءَ بِمَتَاعِهِ فَوَضَعَهُ مَعَ مَتَاعِي فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ فَلَوْ وَضَعْتَهُ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ . قَالَ : فَفَعَلَ . قَالَ : فَرُفِعَتْ لَنَا غَنَمٌ فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِعُسٍّ فَقَالَ : اشْرَبْ أَبَا سَعِيدٍ ! فَقُلْتُ : إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ وَاللَّبَنُ حَارٌّ مَا بِي إِلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشْرَبَ عَنْ يَدِهِ أَوْ قَالَ آخُذَ عَنْ يَدِهِ فَقَالَ : أَبَا سَعِيدٍ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلًا فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرَةٍ ثُمَّ أَخْتَنِقَ ، مِمَّا يَقُولُ لِيَ النَّاسُ يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ r مَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، أَلَسْتَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ r ؟ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : هُوَ كَافِرٌ ؟ وَأَنَا مُسْلِمٌ . أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : هُوَ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ ؟ وَقَدْ تَرَكْتُ وَلَدِي بِالْمَدِينَةِ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ ؟ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَعْذِرَهُ ثُمَّ قَالَ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ وَأَعْرِفُ مَوْلِدَهُ وَأَيْنَ هُوَ الْآنَ ؟ قَالَ : قُلْتُ لَهُ : تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ !« ([13])
شرح الغريب :
عس : القدح الكبير ، وجمعه عساس
وفي رواية قال ابن صائد لأبي سعيد t : ) وَاللَّهِ مَا أَنَا بِالدَّجَّالِ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَوْ شِئْتَ لَأَخْبَرْتُكَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ أُمِّهِ وَاسْمِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا . ( ([14])
وفي رواية قال ابن صائد : ) وَاللَّهِ إِنَّي أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَكَانِهِ السَّاعَةَ ( ([15])
أقول :
الآثار واضحة الدلالة في أن ابن صياد هو أحد الدجالين ، وله أحوال شيطانية ، وأنه غير معذور فيما يدعيه ، ففي اللحظة التي كاد فيها أبو سعيد t أن يعذره صرح بأنه يعرف مولد الدجال واسمه واسم والديه ومكان خروجه ، ولا نعلم هل كلامه من باب الدجل الذي يحاول تسويقه على الغير ؛ أم حصلت له هذه المعرفة من خلال تابعيه من الشياطين ، ولا نعلم دافعه من الحديث عن معرفته لمكان الدجال و اسمه ، هل هو استدراج لأبي سعيد لكي يستفهم منه – والصحابة كان عندهم تشوف وحرص لمعرفة كل شيء عن الدجال – أم هو إظهار لخوارقه وقدراته الخاصة ، أم هي غفوة كل دجال ليستبين من حوله حقيقة دجله ، أم هناك نوع اتصال بين دجال المدينة والدجال الأكبر كما أن هناك اتصالاً بين إبليس وأتباعه من سرايا الشياطين .
يتضح من سياق القصة أن أكثر الصحابة كانوا يعتقدون أن ابن صياد هو الدجال ، وإذا أضفنا إلى ذلك أنه لم يرد – في ظني – عن أي صحابي أنه كان يرى عكس ذلك ؛ أي إنه ليس الدجال ، وبالتالي نجد أنفسنا أمام جمع من الصحابة يعتقد ، بل بعضهم يقسم على أن ابن صياد هو الدجال ، ولم يصلنا – في حدود علمي- أي أثر منهم ينكر ذلك ، فأشبهت القضية الإجماع السكوتي من الصحابة الكرام .
يلحظ من سياق قصة أبي سعيد الخدري أن ابن صائد كان يتفنن في الدجل على من حوله ، ويتصور من سياق القصة أن ذلك وقع إما في عهد أبي بكر t وإما في عهد عمر t ، والسؤال الذي يطرح الآن : لماذا لم يقم أحد الخليفتين بتعزيره على ذلك ؟ بالرغم من أن تصرفه يشيع الفتنة بين المسلمين ، ولئن لم يكن الدجال ، وثبت ذلك عند الخليفتين ، ووقع منه دجل ، فهناك دواعي لمعاقبته من قبل الحاكم المسلم ، ولئن كان هناك مانع من معاقبته في عهد النبي r كصغر سن ابن صائد أو بسبب وجود معاهدات بين المسلمين ويهود المدينة ، فهذه الموانع انتفت في عهد الخليفتين ، ومن تتبع المسألة يجد أنه لم يردنا أي شيء عن محاسبة ابن صائد على دجله ، وعدم وقوع هذه المحاسبة فيه دلالة على أن هناك سبباً قوياً غير معهود في امتناع الخليفتين عن ذلك مع انتفاء الموانع الظاهرة وتوفر الدواعي لذلك ، فما هو هذا السبب ؟
المفارقات التي ذكرها ابن صياد بينه وبين الدجال الأكبر لها أهميتها في هذا المقام ، وهي مرجحة لكون ابن صياد ليس الدجال الأكبر ، لكنها غير جازمة ؛ لأن النبي r أخبر مثل هذه الأوصاف عن الدجال الأكبر بأنه لا يدخل مكة والمدينة ، وأنه لا يولد له ولد حين خروجه ، وهذا لا ينفي وقوعه قبل ذلك ، يقول ابن حجر : » أما احتجاجاته – أي ابن صائد – بأنه مسلم إلى سائر ما ذكر ، فلا دلالة له على دعواه ؛ لأن النبي r إنما أخبر عن صفاته وقت خروجه آخر الزمان .« ([16])
/ - - قال أبو سعيد : « وَقِيلَ لَهُ : أبن صائد ! أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ ؛ أي الدجال قَالَ : فَقَالَ : لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا كَرِهْتُ . » ([17])
أقول :
الأثر فيه إشارة إلى أن ابن صائد كان معجباً بشخصية الدجال ، ولا نعلم هل قال هذا الكلام بعد إسلامه أم قبل ؟ وإن كان دلالة سياق أحاديث أبي سعيد تدل على أنه قال ذلك بعد إسلامه مما يشكك بصورة واضحة في مصداقية ادعائه الإسلام .
ولعل إعجابه بشخصية الدجال ، وتمنيه أن يكون هو ، واستعداده وجرأته ليقول هذا الكلام بين جمع يرى الدجال بصورة منفرة جداً مما سمعوا عن حقيقته من رسول الله ، يوضح لنا سبب نفور من حوله منه .
كذلك يحتمل سياق هذا الحديث وسابقه أن يكون ابن صائد نفسه هو الدجال ، وقد استخدم أسلوب التلميح دون التصريح في الدلالة على ذلك ، لعلمه أن التصريح بشخصيته ليس هذا زمانه الذي يعيش به ، و كأنه هنا استخدم أسلوب التقية والمعاريض لإخفاء شخصيته .
/ - عَنْ نَافِعٍ قَالَ : ) لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما ابْنَ صَائِدٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ قَوْلًا أَغْضَبَهُ فَانْتَفَخَ حَتَّى مَلَأَ السِّكَّةَ فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَدْ بَلَغَهَا . فَقَالَتْ لَهُ : رَحِمَكَ اللَّهُ مَا أَرَدْتَ مِنِ ابْنِ صَائِدٍ ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا . ( ([18])
/ - عن ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : كَانَ نَافِعٌ يَقُولُ ابْنُ صَيَّادٍ – أي هو الدجال – قَالَ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: ) لَقِيتُهُ مَرَّتَيْنِ … فَلَقِيتُهُ لَقْيَةً أُخْرَى – أي ابن صياد - وَقَدْ نَفَرَتْ عَيْنُهُ قَالَ فَقُلْتُ : مَتَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ مَا أَرَى ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي قَالَ قُلْتُ : لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكَ ؟ قَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا فِي عَصَاكَ هَذِهِ . قَالَ : فَنَخَرَ كَأَشَدِّ نَخِيرِ حِمَارٍ سَمِعْتُ ، قَالَ : فَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِي أَنِّي ضَرَبْتُهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعِيَ حَتَّى تَكَسَّرَتْ وَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ قَالَ : وَجَاءَ – أي ابن عمر – حَتَّى دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَحَدَّثَهَا فَقَالَتْ : مَا تُرِيدُ إِلَيْهِ ؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قَالَ – أي رسول الله – إِنَّ أَوَّلَ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى النَّاسِ غَضَبٌ يَغْضَبُهُ . ( ([19])
أقول :
الأثران السابقان يشيران إلى بعض غرائب ابن صياد ، ومدى تأثيره النفسي والشعوري على من حوله ومن هذه الغرائب :
انتفاخه في الطريق أو الزقاق لدرجة أن ابن عمر رضي الله عنهما قال عنه أنه ملأ السكة ؛ أي الطريق .
عدم معرفة ابن صائد كيف ذهبت عينه ، وهذا الأمر يعزز عندنا أن ابن صياد لم يكن يملك نفسه ، بل كان نهبة لتسلط الشياطين عليه من صغره
عدم إحساس ابن عمر رضي الله عنهما بنفسه وهو يضرب ابن صياد ؛ فبالرغم من أنه كسر عصا عليه ؛ إلا أنه لم يشعر بذلك بل تشكك بقول من أخبره بأنه فعل ذلك مما يدل على أنه فقد الشعور بنفسه عندما كان يضربه ، والسؤال الذي يُطرح في هذا المقام : كيف أثر ابن صائد على أحاسيس ابن عمر رضي الله عنهما ؟ طبعاً هذا كان بفعل الشياطين التي وجدت في ابن صياد ثغرة تستطيع النفوذ من خلالها نحو البشر حوله .
لاحظنا من قصة ابن عمر وحفصة رضي الله عنهما أنهما يريان أن ابن صائد هو الدجال ، بل ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقسم على ذلك حيث قال : » وَاللَّهِ مَا أَشُكُّ أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ابْنُ صَيَّادٍ . « ([20]) و صيغة رد حفصة يؤكد على ذلك ، بل سياق الحديث يشير إلى جزم حفصة رضي الله عنها بهذا الأمر ، وحفصة هي ابنة عمر t وزوجة الرسول r ؛ أي هي أقرب الناس من هذا الشأن وفهم ملابساته ودلالة سياق القصة تشير أن ما وقع مع ابن عمر كان بعد عهد النبي r
إذا نحن هنا أمام أقرب الناس من رسول الله r ( حفص و عبدالله ابن عمر ) ، وهما يجزمان بأن ابن صائد هو الدجال مما يؤكد أنه لم يرد عن النبي r حال حياته ما ينفي هذا التصور الذي اختمر في عقول النخبة من صحابته .
/ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ : } رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ صَائِدٍ الدَّجَّالُ ، فَقُلْتُ : أَتَحْلِفُ بِاللَّهِ ؟ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ t يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ r فَلَمْ يُنْكِرْهُ r { ([21])
أقول :
قسم عمر t بأن ابن صياد هو الدجال ، وذلك على مسمع من رسول الله r
، وعدم إنكار النبي r ذلك عليه (_ ) أمر عجيب ، والذي يستوقفني فيه ما عرف من ورع عمر t وتثبته من الحق ، فما الذي يدفعه للتأكيد بقسم على أمر مشكوك فيه ، وما هي الأمارات التي رآها عمر t ولم نرها وجعلته كالمتيقن بأن ابن صياد هو الدجال ؟ والمعلوم أن عمر هو ملهم هذه الأمة يضاف إلى ذلك أنه من أقرب الناس من رسول الله r وأعلمهم بمقتضيات خطابه ، يضاف إلى ذلك أنه هو الذي عاين مع رسول الله r ظاهرة ابن صياد ، ويتصور أنه قد عاين قصة تميم أو سمع عنها لأن النبي r نادى فيها للصلاة جامعة ، وبالرغم من ذلك لم يُنقل لنا عنه أنه عدل عن يمينه ، أو كفر عنها ، وأمر كهذا لا بد أن ينقل عنه كما نقل عنه ندمه على موقفه في الحديبية ، فلو تبين له أنه تعجل في القسم على أمر مظنون ، ثم ظهر له خلافه لنقل عنه ندمه على ذلك أو تكفيره عن اليمين ، ولعلم بذلك أقرب الناس إليه كابن عمر رضي الله عنهما وحفصة ، ولنقل ذلك عنهما ؛ لأن دواعي نقل مثل ذلك قوية . كذلك أليس غريباً هنا سكوت النبي r عندما سمع قسم عمر ، بل أشعر من سياق الخبر أن عمر ترجحت عنده من دلالات عدة استنبطها من حديث النبي أن ابن صياد هو الدجال ، فأراد أن يعزز هذه الدلالات فأقسم بحضرة النبي r ، ليرى ما يترتب على هذا القسم ، فعندما سكت النبي عن الإنكار عليه ترجح لديه أن ما فهمه من دلالات قد أصاب فيها ، بل يكفي في هذا المقام ما ورد عن أبي ذر حيث قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ : } إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ بِهِ { ([22]) فإذا كان لسان عمر t لسان حق ، وكلماته العادية كلـمات حق ، بكيف إذا أقسم على هذه الكلمات التي تجري على لسانه . (_ )
لا حظنا أن جابر t يقسم على ما أقسم عليه عمر رضي الله عنهما مما يدل على أن آخر عهده بعمر t هو بقائه على قسمه ، والغريب في الأمر أن أحد رواة حديث تميم كان جابر t وقد جاء فيه فيما رواه أبو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ : } إِنَّهُ بَيْنَمَا أُنَاسٌ يَسِيرُونَ فِي الْبَحْرِ فَنَفِدَ طَعَامُهُمْ فَرُفِعَتْ لَهُمْ جَزِيرَةٌ فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْخُبْزَ فَلَقِيَتْهُمُ الْجَسَّاسَةُ قُلْتُ لِأَبِي سَلَمَةَ وَمَا الْجَسَّاسَةُ قَالَ امْرَأَةٌ تَجُرُّ شَعْرَ جِلْدِهَا وَرَأْسِهَا قَالَتْ فِي هَذَا الْقَصْرِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَسَأَلَ عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ وَعَنْ عَيْنِ زُغَرَ قَالَ هُوَ الْمَسِيحُ فَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ إِنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئًا مَا حَفِظْتُهُ قَالَ- أي أبو سلمة - : شَهِدَ جَابِرٌ أَنَّهُ هُوَ ابْنُ صَيَّادٍ قُلْتُ : فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ ، قَالَ : وَإِنْ مَاتَ . قُلْتُ : فَإِنَّهُ أَسْلَمَ . قَالَ : وَإِنْ أَسْلَمَ قُلْتُ : فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ قَالَ : وَإِنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ . { ([23])
الشاهد في الحديث :
إصرار جابر t على أن ابن صياد هو الدجال بالرغم أنه يعلم قصة الجساسة وتميم ، وهو أحد رواتها ، والسؤال الذي يطرح هنا : لما أصر جابر t على ذلك ؟ وما هي الأمارات التي علمها ، واطلع عليها وجعلته متأكداً من كون ابن صياد هو الدجال ؟ ولما لم يجد في قصة تميم ما يغير هذا الإصرار أو يضعفه ؟ بل لم يجد في الأمارات الأخرى كإسلام ابن صائد أو دخوله المدينة أو حتى موته ما يضعف هذا الرأي عنده واستمر على إصراره .
و في ظني أن هناك سراً في الأمر وكان جابر وعمر رضي الله عنهما على إطلاع على ذلك السر والله أعلم ، وإلا لما وجدنا من جابر t مثل هذا الإصرار ، خاصة عند تطرق الاحتمال أو الشك في الأمر ، والمعهود عن الصحابة أنهم يتوقفون فيما لم يتبينوا من صحته.
/ - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ في حديث طويل عن ابن صياد وفيه : « فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t : ائْذَنْ لِي فَأَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: } إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَسْتَ صَاحِبَهُ إِنَّمَا صَاحِبُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ r وَإِنْ لَا يَكُنْ هُوَ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ ،قَالَ جابر: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ r مُشْفِقًا أَنَّهُ الدَّجَّالُ . { ([24])
أقول :
هذا الحديث ذكرته استئناساً ، ولعله يوضح لنا بعض أسباب إصرار جابر وعمر رضي الله عنهما على أن ابن صائد هو الدجال ، فجابر t رأى استمرار إشفاق النبي r من كون ابن صائد هو الدجال ، ولم ير من رسول الله r ما يغير هذا الإشفاق ، وهذا الإشفاق هو آخر ما عهده جابر t من النبي r، وكلامه يدل على ذلك دلالة صريحة .
/ - عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : » فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ « ([25])
قال ابن حجر : » وهذا يضعف ما تقدم أنه مات بالمدينة ، وأنهم صلوا عليه وكشفوا عن وجهه . « ([26])
المبحث الثاني
قصة تميم والجساسة
/ - عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها قالت : } سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ r يُنَادِي الصَّلَاةَ جَامِعَةً ، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r ، فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِي ظُهُورَ الْقَوْمِ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ r صَلَاتَهُ ، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ : لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ ! ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ! قَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا ، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ ، حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ ، ثُمَّ أَرْفَئُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ .
فَقَالُوا : وَيْلَكِ مَا أَنْتِ ؟
فَقَالَتْ : أَنَا الْجَسَّاسَةُ .
قَالُوا وَمَا الْجَسَّاسَةُ ؟
قَالَتْ : أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ.
قَالَ – أي تميم - : لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً .
قَالَ : فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ .
قُلْنَا : وَيْلَكَ مَا أَنْتَ ؟
قَالَ : قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي ، فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ ؟
قَالُوا : نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ لَا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ ، فَقُلْنَا : وَيْلَكِ مَا أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ : أَنَا الْجَسَّاسَةُ ! قُلْنَا : وَمَا الْجَسَّاسَةُ ؟ قَالَتِ : اعْمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا ، وَفَزِعْنَا مِنْهَا ، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً.
فَقَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ .
قُلْنَا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟
قَالَ : أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ ؟
قُلْنَا لَهُ : نَعَمْ .
قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ .
قُلْنَا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟
قَالَ : هَلْ فِيهَا مَاءٌ ؟
قَالُوا : هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ .
قَالَ : أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ .
قَالُوا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟
قَالَ : هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ ؟
قُلْنَا لَهُ : نَعَمْ هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ ؟
قَالُوا : قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ .
قَالَ : أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ ؟
قُلْنَا : نَعَمْ .
قَالَ : كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ ؟
فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ .
قَالَ لَهُمْ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ !
قُلْنَا : نَعَمْ .
قَالَ : أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي ، إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ، فَأَخْرُجَ ، فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ ، فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا ، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا ، اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، يَصُدُّنِي عَنْهَا ، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا .
قَالَتْ – أي فاطمة رواية الحديث - :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r - وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ - : هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ يَعْنِي الْمَدِينَةَ .
أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ ؟
فَقَالَ النَّاسُ : نَعَمْ .
قال رسول الله r : فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ .
أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ . { ([27])
شرح الغريب :
أرفئوا : التجئوا
أقرُب : جمع قارب ، وهي السفن الصغيرة تكون مع الكبيرة ، يستخدمها البحارة لقضاء حوائجهم .
أهلب : غليظ الشعر كثيره فرقنا : خفنا
الجساسة :من جس الخبر إذا تتبعه ،قيل سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال .
صلتاً : مسلولاً . اغتلم : هاج وجاوز حده المعتاد
/ - عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ : قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ r : } أَنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ فَتَاهَتْ بِهِ سَفِينَتُهُ فَسَقَطَ إِلَى جَزِيرَةٍ فَخَرَجَ إِلَيْهَا يَلْتَمِسُ الْمَاءَ فَلَقِيَ إِنْسَانًا يَجُرُّ شَعَرَهُ ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ : ثُمَّ قَالَ - أي الدجال - : أَمَا إِنَّهُ لَوْ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَدْ وَطِئْتُ الْبِلَادَ كُلَّهَا غَيْرَ طَيْبَةَ . فَأَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ r إِلَى النَّاسِ فَحَدَّثَهُمْ قَالَ : هَذِهِ طَيْبَةُ وَذَاكَ الدَّجَّالُ . { ([28])
/ - وفي رواية الترمذي عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَضَحِكَ فَقَالَ } إِنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ حَدَّثَنِي بِحَدِيثٍ فَفَرِحْتُ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ .
حَدَّثَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَكِبُوا سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ ، فَجَالَتْ بِهِمْ حَتَّى قَذَفَتْهُمْ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ ، فَإِذَا هُمْ بِدَابَّةٍ لَبَّاسَةٍ نَاشِرَةٍ شَعْرَهَا .
فَقَالُوا مَا أَنْتِ ؟
قَالَتْ : أَنَا الْجَسَّاسَةُ .
قَالُوا: فَأَخْبِرِينَا .
قَالَتْ : لَا أُخْبِرُكُمْ وَلَا أَسْتَخْبِرُكُمْ ، وَلَكِنِ ائْتُوا أَقْصَى الْقَرْيَةِ فَإِنَّ ثَمَّ مَنْ يُخْبِرُكُمْ وَيَسْتَخْبِرُكُمْ ، فَأَتَيْنَا أَقْصَى الْقَرْيَةِ ، فَإِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ بِسِلْسِلَةٍ
فَقَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ
قُلْنَا : مَلْأَى تَدْفُقُ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنِ الْبُحَيْرَةِ .
قُلْنَا مَلْأَى تَدْفُقُ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ الَّذِي بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ هَلْ أَطْعَمَ ؟
قُلْنَا : نَعَمْ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنِ النَّبِيِّ هَلْ بُعِثَ ؟
قُلْنَا : نَعَمْ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي كَيْفَ النَّاسُ إِلَيْهِ ؟
قُلْنَا : سِرَاعٌ .
قَالَ : فَنَزَّى نَزْوَةً حَتَّى كَادَ .
قُلْنَا : فَمَا أَنْتَ ؟
قَالَ : أَنَا الدَّجَّالُ .
قال رسول الله r : وَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْأَمْصَارَ كُلَّهَا إِلَّا طَيْبَةَ وَطَيْبَةُ الْمَدِينَةُ . { ([29])
شرح الغريب :
لباسة : كثيرة اللباس ، وكنى بكثرة لباسها عن كثرة شعرها
فنزى نزوة حتى كاد : أي وثب وثبة حتى كاد أن يتخلص من وثاقه .
/ - وفي رواية أبي داود قال رسول الله r : } إِنَّهُ حَبَسَنِي حَدِيثٌ كَانَ يُحَدِّثُنِيهِ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ عَنْ رَجُلٍ كَانَ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَجُرُّ شَعْرَهَا …حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وَثَاقًا مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ { ([30])
خلاصة القول فيما ورد في قصة تميم والجساسة
أولاً : قصة تميم ، وظاهرة ابن صياد .
حديث تميم بن أوس الداري هو الذي غير أنظار العلماء عن اعتبار ابن صائد هو
الدجال ؛ حيث قال ابن حجر في استبعاد كون ابن صياد الدجال : » وإلا فالجمع بينهم بعيد _ أي قصة تميم واعتبار أن ابن صياد الدجال - إذ كيف يلتئم أن يكون من كان أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم _ أي ابن صياد – ويجتمع به النبي r ويسأله أن يكون في آخرها شيخاً مسجوناً في جزيرة من جزائر البحر موثقاً بالحديد يستفهم عن خبر النبي r . « ([31])
كلام ابن حجر السابق صريح في أنه يعتبر الدجال الأكبر غير ابن صياد ؛ إلا أنه عاد بعدما ذكر أثراً عن البعض أنه رأى ابن صياد في أصبهان فقال : » و أقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال . أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقاً ، وأن ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجئ المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها ، ولشدة التباس الأمر سلك البخاري مسلك الترجيح فاقتصر على حديث جابر عن ابن عمر في ابن صياد ، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم . « ([32])
كلام ابن حجر يقرب إلى الأفهام تصور ظاهرة الدجال وعلاقتها بابن صياد ، و هي ظاهرة غامضة التبس أمرها على أكثر العلماء ؛ لدرجة أن البخاري لم يجد مسلكاً للخروج من الالتباس إلا بطريق الترجيح ، إلا أنه في ظني أن سبب التباس الأمر على كثير من العلماء في التوفيق بين الأمرين مرجعه إلى أنهم تعاملوا مع ظاهرة الدجال على أنها ظاهرة إنسية محضة ، مع أن دلائل الأحاديث تشير إلى خلاف ذلك ، ومن هذا الوجه يشكل الجمع بين الأحاديث ؛ أما لو تعاملوا مع الأحاديث على أن ظاهرة الدجال ظاهرة خاصة شبيهة بالظاهرة الإبليسية ، وهي مخالفة لعادات البشر ونواميسهم ، ففي مثل هذه الحالة لا يقع اللبس ويسهل الجمع بينها ، وهذا المعنى هو ما سأذكره في الملاحظة الثانية
ثانياً : حقيقة ظاهرة الدجال :
يلحظ من سياق حديث تميم ، وغيره من الأحاديث أننا أمام ظاهرة أقرب إلى الإبليسية منها إلى الظاهرة الإنسية ، وهذا واضح من السياق فالدجال هنا شيخ كبير مقيد في جزيرة ، وهو يخرج في آخر الزمان شاباً قططاً ، وميلاده مجهول، و عمره مجهول ، وقدراته خاصة وخارجة عن قدرات البشر (_ ) ، و أسئلته عجيبة ، و مساعده أعجب وهو الجساسة ، فكل هذه العلامات تشير إلى أننا لسنا أمام ظاهرة بشرية ، إنما نحن مع ظاهرة أقرب إلى الجن والشياطين ، و قد نقل نعيم بن حماد عن جبير بن نفير ، وشريح بن يزيد والمقدام بن معدى كرب وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة أنهم قالوا عن الدجال : » ليس الدجال إنسانا،إنما هو شيطان في بعض جزائر اليمن،لا يُعلم من أوثقه.« ([33])
وقال ابن حجر بعد ذكره للأثر الذي أورده نعيم : » ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب . « ([34])
فهذا القول المنقول عن خمسة من الثقات يعزز القول بأننا أمام ظاهرة جديدة أشبه بالظاهرة الإبليسية من بعض الوجوه ، والأحاديث الأخرى تعزز ذلك ، و كذلك ورد أن بعض أتباع الدجال من الشياطين مما يوحي أن له قدرة على التخاطب معهم بطريقة مباشرة ، ولعل الدجال عنده قدرة تقمصية أو تشكلية كإبليس الذي جاء لقريش على شكل شيخ نجدي ، و ثبت مجيئه على هيئات عدة ؛ إلا أن مخالفته للظاهرة الإبليسية تتمثل في أن جسم الدجال يكون كثيفاً مرئياً في الغالب من أمره وذلك بخلاف إبليس .
وإذا اعتبرنا ذلك فيكون الجسد بالنسبة للدجال كالثوب إلى أن يخرج خرجته الأخيرة ، عندها يثبت على الهيئة التي وصفها رسول الله r .
وعلى هذا التأويل يسهل علينا تصور المراد بمجموع الأحاديث التي تكلمت عن الدجال وحتى عن ابن صياد الذي يحتمل معه أمرين :
الأمر الأول :
إنه حالة شيطانية كما ذكر ابن حجر قدرها الله سبحانه وتعالى في زمن النبوة ليستعلم عن خبر رسول الله سبحانه وتعالى ، وهي أشبه بالحالة الدجالية ؛ حيث اختفى إلى أن يأتي مناصراً للدجال أو أحد مستشاريه ، وهذا الرأي أراه ضعيفاً لكن النصوص تحتمله .
الأمر الثاني :
إن رحلة الدجال الأكبر ابتدأت بميلاد ابن صياد ؛ وهذا الجانب البشري فيه ، وكان ميلاده مع بداية الرسالة التي سيخرج في آخر الزمان ليغويها ؛ أي كان ابن صياد كالثوب بالنسبة للدجال ، ويحتمل أن ملابسة الدجال لابن صياد كانت في أوقات مخصوصة ليكون قريباً من نبي الأمة التي سيخرج لإغوائها وفتنها آخر الزمان ، وذلك ليتعرف على تعاليمها عن قرب ، فهو بذلك يكون أقدر على معرفة ما يفتنها .
أما دجال الجزيرة الذي رآه تميم فهو حالة شيطانية صرفة جاءت لتحكي حال الدجال وإرهاصات خروجه بشكل حسي ، وهذا واضح من خلال طبيعة الجساسة ، ويحتمل أن يكون الدجال في ذلك الوقت قد تقمص تلك الشخصية للدلالة على إرهاصات خروجه وجاء على هيئة شيخ كبير ، وفي آخر الزمان حين يخرج يأتي على هيئة شاب قطط .
والملاحظ أن النبي قد استخدم أسلوباً عجيباً في إقراره لقصة تميم حيث قال « فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ » « إِنَّهُ حَبَسَنِي حَدِيثٌ كَانَ يُحَدِّثُنِيهِ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ عَنْ رَجُلٍ كَانَ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ » .
فهذه الصيغ لا تؤكد أنه الدجال ، إنما تؤكد على موافقة الكلام فقط من بعض الوجوه ، وصحيح أنه وردت إشارة في أحد الأحاديث تدل على أن النبي r قد صرح بأن الرجل الذي في الجزيرة هو الدجال ، وهذا أيضاً يقرب لنا ما ذكرنا من أننا أمام حالة غريبة لا نقيسها وفق تصوراتنا للبشر ، فالدجال الذي في الجزيرة شيخ كبير ، وعندما يخرج آخر الزمان يكون شاباً وهناك إشارات قوية من كبار الصحابة تعزز كون ابن صياد هو الدجال ، فهذه أحوال غير مستقرة للدجال تحصلت قبل خروجه لتكون عوناً له في فتنته .
وعلى القول الثاني يسهل علينا فهم عدة أمور :
وصف النبي r لميلاد الدجال وصفة والديه هو على حقيقته ، ويراد به ابن صياد ، فهو الميلاد الأولي للدجال .
توقف النبي r في الفصل بشأن ابن صياد في بداية الأمر و إشفاقه لحين موته من ابن صياد ، واختيار آية الدخان التي لها علاقة بالدجال الأكبر كخبيئة امتحن فيها ابن صياد يعزز فكرة كون ابن صياد هو الدجال الأكبر ، ويشير إلى أن النبي تحصل لديه من عدة قرائن ما يؤكد على ذلك .
قَسَمُ بعض الصحابة المقربين من رسول الله r على أن ابن صياد هو الدجال أيضاً على حقيقته ، ولا يتصور منهم إلا حال تأكدهم من ذلك .
جزم عمر و أبي ذر وابن مسعود وابن عمر وجابر وحفصة رضي الله عنهم بأن ابن صياد هو الدجال فيه إشارة إلى أن لديهم بعض الدلائل الخاصة القوية التي تحصلت عندهم من رسول الله تؤكد على أنه الدجال .
نفور عين ابن صياد دون شعور منه وانتفاخه وإخباره بمغيبات كلها تعزز كونه الدجال الأكبر ، وهذه بداية إرهاصاته ، وتطور قدراته .
إصرار جابر t على أن ابن صياد هو الدجال حتى لو مات أو أسلم فيه إشارة إلى أنه فهم أنه أمام ظاهرة مغايرة للبشر لها خصائصها التي تتميز بها ، وفيه تأكيد على أن العلم الذي تحصل لديه عن ابن صياد بلغ درجة العلم القطعي الذي لا يحتمل غيره .
حصول قصة تميم ، وتقمص الدجال لهيئة الشيخ الكبير فيها إنما جاءت بقدر الله لتوجيه أنظار عموم الصحابة عن ابن صياد ، وعدم ملاحقته أو الافتتان به في غير زمانه ؛ أما إسلام ابن صياد ودخوله المدينة فليس فيه دلالة على أنه ليس الدجال كما صرح ابن حجر لأن النبي r قال أنه لا يدخل المدينة في زمان فتنته ، وكذلك لا يتزوج في تلك المرحلة بالذات .
إذا الروح الدجالية حلت في جسد ابن صياد من ميلاده لتكون قريبة من فهم طبيعة الرسالة التي ستغوي أفرادها في آخر الزمان ، وهذه الروح أيضاً حلت في جسد الشيخ الكبير الموثق في الجزيرة ، وهي التي تحل أو تتشكل على هيئة شاب قطط في آخر الزمان عند بداية الفتنة .
ووفق ما ذكرت أقول : قسم عمر وجابر وأبي ذر وابن مسعود على أن ابن صياد هو الدجال في محله وجزم كبار الصحابة بذلك صحيح ، والقول بأن الشيخ الموثق في الجزيرة هو الدجال الأكبر أيضاً صحيح ، ولا تعارض بين هذه الأقوال كلها لأننا أمام ظاهرة مخالفة للبشر ، ومن الخطأ قياسها وفق عقولنا ونواميسنا . فنحن لسنا أمام ظاهرة إنسية لنقيس عليها بل نحن أمام ظاهرة خاصة خارقة قدرها الله سبحانه وتعالى لتمثل حلقة من حلقات صراع الحق والباطل في آخر الزمان .
وهذا أقرب وجه للجمع بين كل الأدلة وتصورها دون أي اضـطراب في الفهم .
وقد يشكل هذا الاستنتاج على البعض فيقول ، لو كان الدجال الذي في الجزيرة هو بعينه الذي في المدينة ، فلم سأل تميم عن خبر رسول الله r .
وللإجابة على ذلك أقول : إن استخبار الدجال عن محمد r لا يدل على أنه لا يعلم خبره ، بل لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى لبيان بعض العلامات ، وذلك يقال عن بقية أسئلته ، حيث كان يختمها بقوله يوشك أن يحصل كذا أو كذا ، مما يشير أنه يعلم خبرها .
محصلة هذا الجمع :
أقول : أعان الله هذه الأمة في آخر الزمان فإن قائد أعظم فتنة في الأرض والتي حذر منها كل الأنبياء كانت من حظ هذه الأمة ، وهذا القائد - بقدر الله – قد نبت في العاصمة الأولى لهذه الأمة وفي عهد نبيها ؛ وهذا يضيف له قدرة خاصة وخبرة متميزة في الإغواء لأنه تعرف عن قرب على معالم رسالة الحق كاملة ، وبالتالي يكون خبيراً في كل الجوانب المخلة بتلك التعاليم . (_ )
ثالثاً : جزيــرة الدجــال .
هذا العنوان لم أرغب في طرحه ؛ لأنه لا فائدة منه ترجى ؛ إلا أنني وجدت في طرحه حكمة دل عليها حديث رسول الله r رأيت أن أبينها .
فالمعلوم أن لخم وجذام [ قبائل تميم ومن معه ] في منطقة قريبة من البحر الأبيض ومن البحر الأحمر ، وهم أقرب إلى البحر الأحمر ، ودلالات الحال تشير إلى أن البحر الذي قصدوه هو البحر الأحمر إما من جهة خليج العقبة أو غيره ، والحديث يشير إلى أن سفينتهم لعب بها البحر شهراً ؛ أي تاهت في البحر شهراً ، وهذه المدة وفق الإمكانات القديمة تعطينا تصوراً إلى أقصى مدى يمكن أن تكون السفينة قد وصلته حال تلاعب البحر فيها ، وهو إما خليج عدن أو قبله بقليل ، أو تعدوه قليلاً في بحر العرب، والمعلوم أن ما قبل خليج عدن مئات بل آلاف من الجزر، مما يشير أن المقصود أحدها .
ويعزز ذلك أن اليمن نفسها دخلتها النصرانية ، والجساسة وصفت المكان الذي فيه الدجال بأنه الدير ، والمعلوم أن الدير من معابد النصارى في الغالب ، وتميم كان نصرانياً ، ولم ينكر هذا القول من الجساسة .
ويعزز ذلك أيضاً أن النبي r قال : } .. أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ . { ([35])
فالنبي الكريم حدد على وجه الإبهام بحرين يتوقع كون الدجال فيهما وهما بحر الشام وبحر اليمن ، ثم عدل عن ذلك وأكد أنه من قبل المشرق ، ولم يأت على ذكر بحر ؛ أي لم يقل بحر من قبل المشرق ، وفي هذا لطيفة عجيبة ، وهي وجه الحكمة من كلام النبي r -في ظني – وبيانها في التالي :
النبي r يعلم أنه لا فائدة من تعيين جزيرة الدجال أو البحث عنها ؛ فهو ظاهرة خاصة هي جزء من قدر الله سبحانه وتعالى ، وهي لا محالة واقعة ؛ لذا وافق سياق قصة تميم بالحديث عن بحرين مع أنه يسهل عليه تحديد البحر المقصود من خلال سؤال تميم عن أي بحر ركب ، ثم عدل عن ذلك بسرعة للحديث عن مكان خروج الدجال من ناحية المشرق،وقال : بل من قبل المشرق .
والحكمة من ذلك صرف أذهان المسلمين من ملاحقة الأمر في تتبع جزيرة الدجال أو الانشغال فيما لا ينفع ، ويكفي من سياق الحديث أن يعيشوا مع دليل من دلائل النبوة وهو موافقة كلام تميم لما أخبرهم به النبي r .
لذا سارع النبي r بالتأكيد على جهة الشرق دون ذكر بحر ، للإشارة إلى مكان خروجه ، فهذا الذي يعني المسلمين ، وليس المراد من ذلك كما يفهم البعض من أن النبي r قد تحير في مكانه ، بل المقصود من ذلك صرف أذهان الناس عما يشغلهم أو يفتنهم دون جدوى ، وهذا من حكمة النبي r،وهي حكمة أجدر بكل داعي أن ينتبه لها ، فلا يشغل الناس حوله بما لا فائدة منه .
رابعاً : مثلثا برمودا و فرموزا (_ ) وجزيرة الدجال .
بينت في الفقرة السابقة وجه الحكمة في عدم تعيين النبي r لجزيرة الدجال ، ونلحظ في عصرنا أن عدداً من المؤلفين قد تناولوا هذا الموضوع وتأولوه بطريقة متعسفة لا تمت للنقل أو العقل بصلة ، بل هي شطحات يراد بها الإثارة ولفت الانتباه ؛ حيث زعم محمد عيسى داود أن جزيرة الدجال هي إحدى جزر مثلث برمودا في المحيط الأطلسي بالقرب من الجنوب الشرقي لأمريكيا الشمالية ، وعزا بعض الظواهر الغريبة التي وقعت بالقرب من تلك المنطقة لقدرات الدجال ، ويزعم محمد داود أن الدجال وحكومته الخفية هناك تتحكم في العالم المعاصر ، وأنه يتنقل في عالمنا من خلال الأطباق الطائرة . ([36])
ولاحقه في ذلك منصور عبد الحكيم ، لكنه يزعم أن جزيرة الدجال هي في مثلث فرموزا في المحيط الهادي بالقرب من الصين ، ويزعم أنه حقق بذلك سبقاً علمياً لم يسبقه إليه أحد ، أما جزيرة برمودا في المحيط الأطلسي ففيها عرش إبليس ، واعتبر هذا الفهم من باب الاجتهاد والفتوحات الربانية ، والغريب أن أول ما سطر هذان الرجلان شطحاتهما كان في كتب لهما تتعلق بحوارات مع الجن ، فمحمد عيسى داود ذكر ذلك في كتابه : حوار صحفي مع الجني المسلم ، ومنصور عبد الحكيم ذكر ذلك في كتابه : مواجهة الجن ، واعتبر ما وصل إليه فتحاً ربانياً . ([37]) فهل هو فتح رباني أم تلبيس شيطاني من خلال شياطين الجن .
وقد سار في فلك هذين المؤلفين عدد آخر من الكتاب منهم : محمد عزت عارف في كتابه : سكان تحت الأرض ، وهشام كمال عبد الحميد في كتابه : اقترب خروج المسيح الدجال . ([38])
وخلاصة القول : هذه تأويلات متعسفة لا تستند إلى دليل علمي أو عقلي ، بل العقل والنقل يأبى مثل هذه الشطحات ، فالمعلوم من نص حديث تميم أنه صريح بأنه لعب بهم الموج شهراً حتى أرفئوا إلى جزيرة عند غروب الشمس ، فهل يعقل أن البحر قد حملهم خلال شهر واحد إلى الخروج من البحر الأحمر من شماله إلى جنوبه ثم سار بهم عبر المحيط الهندي حتى عبروا المحيط الأطلسي من جهة جنوب أفريقيا ، ثم ساروا إلى الشمال الغربي حتى كادوا يصلون فلوريدا أو شواطئ أمريكيا الشمالية ، فهذا المسافة تعجز السفن المعاصرة بإمكاناتها الهائلة بلوغها في هذه المدة ، فكيف بسفينة صغيرة شراعية ذات إمكانات محدودة جداً لعب بها الموج وتسير في البحر دون هدف ، وعلى فرض حصول ذلك كيف تم لهم العودة إلى جزيرة العرب بعد ذلك ، وبأي قدرة علمية استطاعوا تحديد مسار رحلة العودة ، وما يقال عن مثلث برمودا يقال على مثلث فرموزا ، فما يذكره هؤلاء المؤلفون هو من تلبيس إبليس بهم ، ويدخل في باب اتخاذ آيات هزواً ، وذلك من خلال إخضاع نصوص الوحي أو نصوص السنة لمثل هذه الشطحات بغرض الإثارة وتسويق المؤلفات ، ولا أعلم كيف تم نسج هذه الفكرة السقيمة العارية عن أي دليل علمي يؤيدها .
فغاية ما يحتمله حديث تميم هو أن الموج قد لعب بهم شهراً في حدود البحر الأحمر أو البحر العربي أو في حدود قريبة في البحر الأبيض ، وقد رجحت أن الرحلة كانت في البحر الأحمر ، وبعدما انتهى لقاؤهم بالدجال ركبوا سفينتهم في بحر يعرفونه ويعرفون طريق العودة خلاله ، ولم يذكر تميم أنهم وجدوا عناءً في الرجوع إلى موطنهم مما يشير صراحة إلى أنهم كانوا في مناطق يعرفون معالمها ويعرفون طريق العودة من خلالها ، وهذا لا يتأتى بتلك الشطحات التي ينسجها بعض مؤلفي كتب الفتن والملاحم المعاصرين .
خامساً : طلب الهداية سبب في حصولها ولو بعكس الأسباب :
/ - قال الله سبحانه وتعالى: }وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ { ([39])
/ - وقال سبحانه وتعالى : } قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ { ([40])
أحياناً يحار الإنسان في زمن الفتن ، وتتضارب الآراء الكثيرة التي يختلط فيها الحابل بالنابل ، وتختلف الموازين في الحكم على الأمور ، ويقول أين المخرج ، وكيف السبيل إلى الهداية المنجية ؟
أقول : في قصة تميم توجيها لنا إلى أعظم سبب من أسباب الهداية ، وهو طلبها بصدق والاستعداد لمقتضيات هذا الطلب و مستلزماته ؛ فإذا وجد طلب الهداية في قلب الإنسان بحق مع الاستعداد له فإنه ستيسر له الهداية المنجية ، ولو بعكس الأسباب ، وسيكون على برهان من ربه ونور ، و لو كان الواقع حوله كله بخلاف ذلك .
وهذا الأمر نتعلمه من قصة إسلام سلمان الفارسي t ، الذي كان سادناً من سدنة النار التي تعبد من دون الله ؛ أي كان في أبعد الأماكن عن الحق ، لكن عندما توفر عنده طلب الهداية وسعى لها ، كان من أهلها حتى أصبح كما قال النبي r : سلمان منا آل البيت .
وتميم الداري t كان عنده طلب لمعرفة الحق و استعداد للسعي للهداية وسياق قصته إلى أن أسلم يدل على ذلك ؛ لذا كان صاحب أكبر فتنة على وجه الأرض سبباً في توجيهه للذهاب للنبي r ؛ أي كان الدجال سبباً لهدايته ، وهذا بعكس الأسباب ؛ إذ الأصل أن الدجال سبب في صرف الناس عن الهداية .
وعليه يمكن القول أن قصة الجساسة كانت سبباً لأمرين :
الأول : تعزيز الإيمان وتأكيد الهداية عند الصحابة الكرام ؛ حيث عايشوا دليلاً من دلائل نبوة محمد r يرويه أحد النصارى الذي جاء ليعلن إسلامه بعد معاينته لهذا الدليل .
الثاني : الاستعداد القبلي للإيمان عند تميم t ، وطلبه الهداية كان سبباً في تهيئة الأسباب الربانية له لحصول الهداية في حقه ، و توفير الأسباب الممهدة لذلك والمخالفة للحس والعقل ، وبما يتوافق مع عقليته ، فتميم عنده الاستعداد للهداية ، وسمع بالنبي r ، ولكنه لم ينتبه للأمر لبعد المسافة بينه وبين المدينة من ناحية ، ولعدم معاينته لدلائل معززة للإيمان لسطحية الأخبار الواردة له والمدللة على صدق نبوة محمد r .
لكن هذا الاستعداد القبلي عند تميم كان سبباً في تهيئة الظروف الممهدة للهداية في حقه ، والتي كانت عبارة عن قصة عجيبة مبدؤها التيه ومعاينة الموت في البحر ، ثم الالتقاء بالدجال ، ثم حديث الدجال معهم ، ثم تقدير الله سبحانه وتعالى في أن يجري على لسان الدجال ما كان سبباً في هداية تميم t ، منه قول الدجال في حق النبي r : » أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ « ، فهذه كلمات حق جرت على لسان صاحب أكبر فتنة على وجه الأرض ، وكانت سبباً في هداية تميم وحرصه في طلب المدينة والالتقاء بالنبي الكريم .
وهذه عبرة عظيمة لكل مسلم في زمن الفتن ، فلا يظنن المسلم أن الفتن سبباً في وأد الهداية ، وإن كانت سبباً في تمييز المحق من المبطل ، وبين أهل الحق وأدعيائه ، واعلم أنه إذا تواجد طلب حقيقي للهداية في داخلك وأسباب حصولها المكملة ، فإن عواصف الفتن الماحقة ستكون في حقك نسيماً عليلاً ، كما كانت الريح الصرصر العقيم على قوم عاد نسيماً عليلاً على هود عليه السلام وأتباعه ، واعلم أن الفتن أمرها بيد الله ، وشخوصها جزء من خلق الله ، وكلا الأمرين لا يملكان شيئاً } أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ { ([41])
وقد ثبت في السنن أن صاحب طلب الهداية الحقيقي يخرج من الفتن بقلب أبيض لا تشوبه شائبة ، وكأن الفتن كانت سبباً في تخلية هذا القلب من الشوائب كما كان صاحب أعظم فتنة في الأرض سبباً في هداية تميم t .
سادساً : الجساسة .
نلحظ من أحاديث تميم أن قصته اقترنت بما يعرف بالجساسة ، وقد اختلفت العبارات الدالة عليها في مجموع الأحاديث السابقة ، ولكي يتضح المراد بها أذكر هنا هذه العبارات ثم أعقب عليها :
فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ .
قَالَتْ : أَنَا الْجَسَّاسَةُ .
- لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً .
- فَلَقِيَ إِنْسَانًا يَجُرُّ شَعَرَهُ
- فَإِذَا هُمْ بِدَابَّةٍ لَبَّاسَةٍ – أي كثيرة الشعر - نَاشِرَةٍ شَعْرَهَا .
فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَجُرُّ شَعْرَهَا .
هذه أبرز العبارات الدالة على الجساسة ، ويلحظ في الأحاديث أنها هي التي أعلمتهم باسمها هذا ، والاسم له علاقة بوصف يبين طبيعة وظيفة هذه الدابة ، وهو تتبع الأخبار لصالح الدجال ، وقولها أنها الجساسة فيه دلالة أنها مؤنث ، وإلا لقالت أنا الجساس ، ويأتي تساؤل هنا : ما هي الجساسة ؟
دلائل العبارات تشير إلى أن تميماً ومن معه تحيروا في توصيف الجساسة ، فبالنظر إلى شعرها الكثيف الذي يُغيِّب معالم جسمها بحيث لا يعرف لها قُبُل من دُبُر جاء التعبير عنها بأنها دابة ، وبالنظر إلى حديثها معهم جاء التعبير عنها بأنها إنسان ، وبالنظر إلى صوتها ، و صيغ التأنيث في حديثهم معها وفي طبيعة اسمها جاء التعبير عنها بأنها امرأة ، وبالنظر إلى دلائل حالها المخالفة للبشر ، و تسميتها لرجل ينتظرهم في الدير جاء التعبير بالخوف من كونها شيطانة .
ولا أعلم ما وجه الربط بين كون تسميتها لرجل في الدير وبين الخوف من كونها شيطانة ، » لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً .« فصيغة العبارة شرطية ؛ أي أن الخوف من كونها شيطانة شرط مترتب على تسميتها لرجل ، وفي ظني تسميتها لرجل وهو الدجال ، وانتظاره لهم بالأشواق ، وما رافق ذلك من سياق حديثهم معها وملابساته أشعرهم أنها تملك قدرات تفوق الوضع الطبيعي للبشر ، فجاء الخوف من كونها شيطانة .
هذا مجمل الحديث عن الجساسة ، يتحصل منه القول أنها ظاهرة خاصة قد تكون من فصيل الجن ، ويبعد كونها من البشر ، وإن كان بعض ملامحها يشير إلى ذلك ؛ إلا أنه لا يؤكد عليه .
القسم الثاني : دراسة تفصيلية لظاهرة الدجال
وهذا القسم أتناوله في المباحث التالية :
المبحث الأول
خطورة فتنة الدجال وتعوذ النبي r منها
هذا المبحث يبرز مدى خطورة هذه الفتنة وعظمتها وإنذار النبي r لأمته منها ، وكذلك يوضح منهج النبي r في التعوذ من هذه الفتنة ،وذلك في المطالب الثلاثة التالية .
المطلب الأول : فتنة الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض
/ - عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ : } مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ . { ([42])
/ - عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ : } لَأَنَا لَفِتْنَةُ بَعْضِكُمْ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، وَلَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِمَّا قَبْلَهَا إِلَّا نَجَا مِنْهَا ، وَمَا صُنِعَتْ فِتْنَةٌ مُنْذُ كَانَتِ الدُّنْيَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ إِلَّا لِفِتْنَةِ الدَّجَّالِ . { ([43])
أقول :
الأحاديث السابقة صريحة في عظم فتنة الدجال ، وكأن هذه الفتنة إشارة إلى نهاية الدنيا ؛ حيث تشبه الاختبار النهائي لأهل الأرض في زمان خروجه .
الحديث الثاني فيه إشارة مهمة إلى أن فتنة الدجال تأتي بعد فتن عدة ، وقد صرحت بعض الأحاديث أن آخرها فتنة الدهيماء ، وهذه الفتن تكون قد غربلت الناس فظهر مؤمنهم من منافقهم ، فما يكون من فتنة الدجال إلا حصد ما خلفته الفتن التي سبقته ، وفي هذا إشارة إلى ضرورة انتباه المؤمن من الفتن ، ولا يستصغرها ، أو يحقر شأنها ، فهي موطئة لفتنة الدجال ، يعزز ذلك ما جاء في الحديث : « لَأَنَا لَفِتْنَةُ بَعْضِكُمْ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ » ، وفي رواية مسلم : غير الدجال أخوفني عليكم . وفي رواية أحمد : « لَغَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَى أُمَّتِي ، قَالَهَا ثَلَاثًا : قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا الَّذِي غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُكَ عَلَى أُمَّتِكَ قَالَ أَئِمَّةً مُضِلِّينَ . » ([44])
و عن حذيفة بن أسيد t قال : » … إنا لغير الدجال أخوف علي وعليكم قال فقلنا ما هو يا أبا سريحة ؟ قال فتن كأنها قطع الليل المظلم قال : فقلنا : أي الناس فيها شر ؟ قال : كل خطيب مصقع وكل راكب موضع . قال فقلنا : أي الناس فيها خير قال : كل غني خفي قال أبو الطفيل الليثي : فقلت : ما أنا بالغني ولا بالخفي ؟ قال فكن كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب . « ([45])
شرح الغريب :
خطيب مصقع : أي كل خطيب بليغ اللسان ، ويراد به الخطباء الذين يغيرون الحقائق ويزينون الباطل لأهوائهم أو لمصالح قادة الفتن مستعينين بما أوتوا من قوة بلاغة و تأثير في الناس .
راكب موضع : أي مسرع ، ويراد به من يخف ويسرع في الفتن ونصرة أهل الباطل .
غني خفي : أي كل غني النفس معتزل للناس
ابن لبون : ابن الناقة ذات اللبن ، وابن اللبون يكون صغيراً لا يمكن أن يركب لقتال ونحوه ، ولا يمكن أن يحلب فينتفع به ؛ لأنه صغير ، ومعنى كن كابن لبون : أي مثله في عدم الانتفاع به في أمر من أمور الفتن .
المطلب الثاني : إنذار النبي r لأمته من فتنة المسيح الدجال .
/ - عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ r فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ : } إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ ، وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ ، إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ . { ([46])
/ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : كُنَّا نَتَحَدَّثُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّبِيُّ r بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَلَا نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِ وَقَالَ : } مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ أَنْذَرَهُ نُوحٌ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِيكُمْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ ثَلَاثًا إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّهُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ . { ([47]) وفي رواية مسلم } كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِئَةٌ . { ([48])
أقول :
هذان الحديثان يدلان على خطورة فتنة الدجال ، فما من نبي من لدن نوح عليه السلام إلا أنذر أمته منه ، والسؤال الذي يطرح هنا : ما وجه إنذار نوح عليه السلام لأمته من الدجال بالرغم من أنه يخرج في آخر الزمان ؟
وهذا يجاب عنه بأن وقت خروجه كان خفياً على نوح عليه السلام ؛ أي أن نوحاً علم بفتنة الدجال ولم يعلم بوقت خروجه فأنذر أمته وكذلك سائر الأنبياء ، وهذا يعزز أن النبي r في بداية الأمر قد علم بفتنة الدجال ثم تبين له في آخر الأمر وقت خروجه ؛ لذلك كان إنذار محمد r لأمته من الدجال أوفى وأكثر تفصيلاً من غيره لوقوع فتنته في أمته .
المعلوم أن حجة الوداع كانت في آخر عهد النبي r ، وتضمنت ملخصاً عاماً لرسالة الإسلام وأبرز تعاليمه ، ومع كونها كذلك إلا أن النبي r لم يختصر الحديث عن الدجال فيها ، بل أطنب و أفاض في الحديث عنه ، وفي هذا إشارة إلى عظم هذه الفتنة وخطورتها ، و ويتضمن تنبيهاً لأمته للإفاضة في الحديث عنها والتحذير منها .وإذا كانت خطبة الوداع التي تعتبر ملخصاً لرسالة محمد r قد تضمنت إطناباً عن فتنة الدجال ، فمن باب أولى أن يطنب أتباعه في ذكرها ،والتحذير منها ، وليس كما يدعي البعض أن ذكر الدجال وفتنه من باب الملهاة للأمة وإشغال لها عن قضاياها ، بل على العكس ذكر فتنة الدجال يقي الأمة من الوقوع فيها من جانب ، ومن جانب آخر يعطيها تصوراً لطبيعة الفتن التي نعيشها قبل خروجه ، وذلك لارتباط الفتن بفتنة الدجال ؛ لذا لا بد أن يكون بعض ما نلابسه من فتن يطابق بعض أوصاف فتنة الدجال .
المطلب الثالث : تعوذ النبي r من فتنة الدجال
/ - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : } أن النبي r كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ . { ([49])
/ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t } أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ يَدْعُو أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ . { ([50])
/ - عَنْ مُصْعَبٍ كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ وَيَذْكُرُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ r : } أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا يَعْنِي فِتْنَةَ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. { ([51])
/ - عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : } سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ . { ([52])
/ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ . { ([53])
أقول :
هذه الأحاديث برواياتها المتعددة تشير إلى أن النبي r قد جعل لفتنة الدجال نصيباً من استعاذته ، وفي هذا إشارة إلى عظم هذه الفتنة على وجه الخصوص ، وفيه إشارة إلى أن الاستجارة بالله سبحانه وتعالى من العظائم قبل وقوعها سبب في دفعها ، أو التقليل من أثرها ، والمعلوم أن الدعاء يدفع البلاء أو يخفف منه .
يلحظ من بعض الأحاديث أنها دلت على سنة نبوية من سنن الصلاة وهي الاستعادة من عظائم أربع ابتدأها النبي r بالتدريج ، وجعل أقربها من الإنسان فتنة المسيح الدجال التي يمكن أن يعيش الإنسان في غمرتها فجأة ، واختيار النبي r لذكر هذه الاستعادة في خاتمة الصلاة يتناسب مع خطر هذه العظائم الأربعة من ضمنها فتنة الدجال ، فالصلاة صلة بين العبد وربه ، والأصل فيها أن تكون سبب نجاة لصاحبها مما يستقبله من عظائم ، فبدأ بالاستعادة بأعظم الأمور وبأبعدها عن المؤمن وهي النار ثم تدرج في العظائم إلى أن انتهى إلى فتنة المسيح الدجال ، وفي ذلك دلالة واضحة على أن النجاة من هذه الأمور الأربعة فوز وفلاح لصاحبها ، وفيها أيضاً إشارة إلى أن أعظم فتن الدنيا هي فتنة المسيح الدجال ، وإلا لو كان غيرها لذكره النبي r .
/ - عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول r قال : } مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ . { ([54])
أقول :
هذا الحديث فيه إشارة واضحة إلى أن فتنة الدجال لا تعدو كونها ممحصة أو محصِّلة لما في القلوب قبل أن تأتي ؛ لذا الذي يسلم من الفتن قبلها سيسلم منها ، والذي يقع فريسة للفتن قبلها لا محالة سيكون من أهل الوقوع بها ؛ وهذا هو وجه مشابهتها لفتنة القبور ، فالمعلوم أن المؤمن إذا عرضت عليه فتنة القبر ينجو منها وإذا سئل أجاب بما فيه نجاته ، أما المنافق أو المرتاب أو من لبسته الفتن في الدنيا ، فيحرم من الإجابة . وبالتالي من لم تحصده فتنة الدجال حصدته فتنة المحيا والممات أو فتنة القبور ، والعبرة بما كان عليه الإنسان قبل وقوع هذه الفتن ، فليحذر المؤمن .
المبحث الثاني
أوصاف الدجال ، وعلامات خروجه ومنشأ فتنته وطبيعة أتباعه
المطلب الأول : مجمل أوصاف الدجال
/ - عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ r : } مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ . { ([55])وفي رواية مسلم : } مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر أَيْ كَافِرٌ . { ([56])وفي رواية أخرى : } الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ ثُمَّ تَهَجَّاهَا ك ف ر يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ . { ([57])
/ - عَنْ حُذَيْفَةَ t قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } .. وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ . { ([58])
شرح الغريب :
ظفرة : جلدة تغشى البصر ، أو لحمة تنبت عند مآقي العيون .
/ - عَنْ حُذَيْفَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى جُفَالُ الشَّعَرِ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ . { ([59])
شرح الغريب :
جفال : كثير
/ - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَـمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ . { ([60])
شرح الغريب :
أفحج : الفحج هو التباعد بين الساقين . حجراء : الغائرة
جعد : قصير متكنز الجسم ، ذو شعر خشن . ألبس : اختلط واستشكل
مطموس العين : ممسوح العين
/ - عن عَبْد اللَّهِ رضي الله عنهما قال : ذَكَرَ النَّبِيُّ r يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ : } إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَلَا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعَرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطِطًا أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ . { ([61])
شرح الغريب :
قطط : شديد جعودة الشعر أدم : أسمر
اللمة : ما وصل من الشعر إلى شحمة الأذن
وفي رواية : } .. ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ جَسِيمٌ أَحْمَرُ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قَالُوا هَذَا الدَّجَّالُ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ . { ([62])
شرح الغريب :
عنبة طافية : هي الحبة التي خرجت عن حد نبات أخواتها في العنقود ونتأت .
/ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } .. وَأَمَّا مَسِيحُ الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ أَجْلَى الْجَبْهَةِ عَرِيضُ النَّحْرِ فِيهِ دَفَأٌ كَأَنَّهُ قَطَنُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَضُرُّنِي شَبَهُهُ قَالَ لَا أَنْتَ امْرُؤٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ امْرُؤٌ كَافِرٌ . { ([63])
شرح الغريب :
دفأ : انحناء
/ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في قصة الإسراء قَالَ : }.. وَرَأَى الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ لَيْسَ رُؤْيَا مَنَامٍ وَعِيسَى وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَات اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَسُئِلَ النَّبِيُّ r عَنِ الدَّجَّالِ فَقَالَ أَقْمَرُ هِجَانًا – وفي رواية أزهر - هِجَانًا إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ كَأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ. { ([64])
شرح الغريب :
أقمر : شديد البياض هجان : أبيض
/ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } إِنَّ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى وَعَيْنُهُ الْأُخْرَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ . { ([65])
/ - عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t عَنِ النَّبِيِّ r : } أَنَّهُ ذَكَرَ الدَّجَّالَ عِنْدَهُ فَقَالَ عَيْنُهُ
خَضْرَاءُ كَالزُّجَاجَةِ . { ([66])
/ - عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عن رجل من أصحاب النبي r عن النَّبِيِّ r قَالَ : } إِنَّ مِنْ بَعْدِكُمُ الْكَذَّابَ الْمُضِلَّ ، وَإِنَّ رَأْسَهُ مِنْ بَعْدِهِ حُبُكٌ حُبُكٌ حُبُكٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. { ([67])
شرح الغريب :
حبك : جعد
مجـمل أوصـاف الدجـال
اللـــون :
أزهر ؛ أي أبيض مشرب بالحمرة ، وفي بعض الأحاديث إشارة إلى شدة بياضه ( أقمر هجان ) وبعض الأحاديث أشارت إلى أنه أحمر ، واللون الأحمر يكون لشديد البياض ، والمعاني متقاربة .
الطـول :
قصير ، وإذا مشى تتباعد ساقاه ( أفحج ) ، أي هو معيب في مشيه ، مع انحناء
في أعلى جسمه ( الدفاء ) .
الجسـم :
ممتلئ مكتنز اللحم ، والصدر واسع ضخم ؛ إذا الجسم ضخم بالرغم من قصر الدجال ، وعليه يحمل قول تميم في شأن الدجال أنه أعظم إنسان ؛ أي في الضخامة .
الوجـه :
معالم وجه الدجال مشوهة للغاية ، فالعينان معيبتان : إحداها ممسوحة تماماً أو مطموسة تماما ، فلا هي بارزة ولا هي غائرة ، والعين الأخرى خارجة عن حدها بشكل قبيح كأنها حبة عنب خرجت عن عنقودها ، وهذه العين خضراء معيبة ؛ إذا للدجال عين واحدة معيبة جداً خارجة عن محجرها أما الأخرى فهي مطموسة تماماً ؛ أي لا يوجد عين ولا حاجب .
يضاف إلى ذلك هناك جلدة غليظة بارزة نبتت في مآقي عينه ، وهذا الجلدة فيها تدلي فوق العين هكذا مثل عرف الديك .
أما جبهته فواسعة ، ومكتوب بين عينيه ( كفر ) أو ( ك ف ر ) حسب تعدد الروايات ، وهذه الكتابة حقيقية ، ويلزم من ذلك أنها كالوشم أو كالوحم في اللحم وهذا أيضاً إضافة في تشوه الوجه .
أما الشعر فهو شديد الخشونة والتجعد كثير ومتفرق و قائم خلف الدجال كأنه أغصان شجر أو لفافات ملتوية وجاء في أوصاف رأس الدجال بأنها أشبه بالأصلة ، والأصلة هي الحية العظيمة ، والعرب تشبه الرأس الصغير الكثير الحركة برأس الحية . .
ويلحظ من الوصف السابق أننا أشبه ما نكون أمام سلالة مهجنة فاللون الأبيض أو الأحمر والعين الخضراء أشبه بالسلالة الأوروبية ، والشعر شديد الخشونة والتجعد أشبه بسلالة الزنوج ، و قصر القامة أشبه بسلالة وسط وشرق آسيا .
آراء العلماء في الكتابة الموجودة بين عيني الدجال :
يتضح من الأحاديث السابقة أن الدجال مكتوب بين عينيه كلمة ( كفر ) وهذه
الكلمة لا يراها أو يقرؤها إلا المؤمن ، وفي رواية كل من كره عمل الدجال وكفر به ، وهذا يصدق على المؤمن ، و سواء كان المؤمن يعرف القراءة والكتابة أم لا ، بينما يحرم من رؤيتها الكافر أو الشقي المتابع له ، فما هي حقيقة هذه الكتابة : هل هي معنوية غير ظاهرة ؟ ويؤيد ذلك أن المؤمن يقرؤها وهو لا يعرف الكتابة ، أم هي ظاهرة حقيقية في جلد الدجال ؟
يقول النووي : » الصحيح الذي عليه المحققون أن الكتابة المذكورة حقيقية جعلها الله علامة قاطعة بكذب الدجال ، فيظهر الله المؤمن عليها ، ويخفيها على من أراد شقاوته . « ([68]) ونقل عياض عن البعض أنه يرى أن الكتابة معنوية أو مجازية ، واستدل هؤلاء بما ورد بأن المسلم يقرؤها وهو لا يعرف الكتابة بينما لا يقرؤها أو يراها الكافر وهو يعرف الكتابة فدل ذلك على أن هذه الكتابة شيئاً مجازياً ليس له رسم ظاهر في جلد الدجال . وهذا المذهب ضعيف .
ويجاب على ما ذكروا بأن الكتابة حقيقية ، ولا يلزم من قول النبي r بأنه يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب أن تكون الكتابة غير حقيقية ، بل يقدر الله على غير الكاتب علم الإدراك الذي به يستبين المكتوب بين عيني الدجال بعين البصيرة ، ويحرم الكافر الإدراك في البصر لهذه الكلمة مع وجودها ، وذلك أن الإدراك بالبصر لا يكون إلا وفق المشيئة الإلهية ، والله سبحانه وتعالى يقدر ما يشاء ، وقد خرج النبي r بين ظهراني الكفار في الهجرة ، وعلى مرأى من عيونهم ، ولكن وقعت الغشاوة على عيونهم فلم يروه، وزمن الدجال زمن الخـوارق؛ لذا يخـص المؤمن بالقدرة على رؤية هذه الكلمة دون غيره ([69])
المطلب الثاني : علامات خروج الدجال
يمكن إعطاء تصور إجمالي عن علامات خروج الدجال والتي تحدد لنا أيضاً زمانه وذلك على النحو التالي :
العلامة الأولى : فتح بلاد الروم (القسطنطينية ورومية ) :
/ - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ يَعْنِي مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ . { ([70])
/ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } بَيْنَ الْمَلْحَمَةِ وَفَتْحِ الْمَدِينَةِ سِتُّ سِنِينَ وَيَخْرُجُ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ فِي السَّابِعَةِ . { ([71])
/ - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ : } الْمَلْحَمَةُ الْعُظْمَى وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ { ([72])
شرح :
الحديث الأول يشير إلى أن المدة بين الملحمة وخروج الدجال سبع سنوات ، والحديث الثاني يشير إلى أن المدة سبعة أشهر ، والحديث الأول الذي يدل على أنها سبع سنوات أصح كما صرح أبو داود مخرج الحديث .
وحاول بعض العلماء أن يخرج من إشكال الجمع بين الحديثين – وكلامه محتمل – فقال بأن الحديث الأول يدل على أن المدة من بداية الملحمة الأولى إلى خروج الدجال سبع سنوات ، أما الحديث الثاني فدل على أن ما بين الملحمة وفتح القسطنطينية وخروج الدجال سبعة أشهر فتكون مدة الملحمة العظمى ست سنوات ، وبينها وبين فتح القسطنطينية وخروج الدجال سبعة أشهر من السنة السابعة . ([73])
وهذا الكلام مع أنه محتمل ، إلا إنني أراه بعيداً ؛ لأن دلالات أحاديث الملحمة العظمى لا تشير إلى هذه المدة الطويلة ؛ لذا أرى أن نعدل إلى الترجيح هنا بين الروايتين باعتماد أصحها سنداً وأقواها في دلالة المتن ، وأقربها للواقع وهي مدة السبع سنوات ، وإشارة أبي داود إلى أن حديث السنوات السبع أرجح فيه إشارة واضحة إلى أن هناك تعارضاً ثابتاً بين الحديثين لا يمكن دفعه إلا بالترجيح ، وذلك بتقديم الأرجح إسناداً . ([74])
/ - عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ : } سَتُقَاتِلُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ تُقَاتِلُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ تُقَاتِلُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ . { قَالَ جَابِرٌ : فَمَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ » ([75])
شرح :
الكلام هنا يحتمل أن المراد به ما وقع في العصر الأول في عهد الصحابة من قتال في جزيرة العرب والروم ، ويحتمل أن يراد به مرحلة البعث الثاني للأمة أو العالمية الثانية لها في زمن المهدي t ،والاحتمال الثاني في ظني أقوى وفي تعقيب جابر بن عبد الله t ما يؤكده ، ودلالات الأحاديث الأخرى تعززه .
/ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ : } سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ ، وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ : قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَقَ ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ ، وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ ، قَالُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا ، قَالَ ثَوْرٌ : لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ الَّذِي فِي الْبَحْرِ ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيُفَرَّجُ لَهُمْ ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ فَقَالَ : إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُونَ . { ([76])
أقول :
الحديث يشير إلى فتح مدينة القسطنطينية (_ ) – كما صرحت بذلك أحاديث أخرى - وأنها تفتح بالتكبير مما يدل على أن أهل الحق في آخر الزمان يؤيدون بنصرات غيبية ، وهذا لا يكون إلا مع طائفة من الربانيين أهل اليقين والصبر ممن أخلصوا لله ، والملاحظ من الحديث أن الذي سيفتتحها من المسلمين هم من بني إسحق .
يقول النووي : » قال القاضي ( عياض ): كذا هو في جميع أصول صحيح مسلم من بني إسحق ، قال : قال بعضهم : المعروف المحفوظ من بني إسماعيل وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه ؛ لأنه إنما أراد العرب. « ([77])
وفي رأيي أن كونهم من بني إسحق أثبت مما نقله القاضي عن البعض بأنهم من بني إسماعيل ، والغريب أن هناك طائفة ضخمة من المسلمين في خراسان تزعم أنها من بني إسحق ، فقد يكونون هم المقصودون في الحديث ، وكذلك معلوم أن أهل خراسان هم من أنصار المهدي كما دلت الأحاديث ؛ لذا قد يكون غالب هذا الجيش منهم .
/ - جاء في حديث حفصة لأخيها ابن عمر عندما تعرض لابن صياد : « أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: } :إِنَّمَا يَخْرُجُ – أي الدجال - مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا . ( ([78])
شرح :
هذا الأثر سبق أن ذكرته كاملاً مبرزاً مناسبة ذكره وهو ما حصل من ابن عمر رضي الله عنهما حينما أغضب ابن صياد وضربه ، فذكرت حفص رضي الله عنها مقولة النبي r بأن الدجال يخرج من غضبة يغضبها ، ومن تتبع سياق الأحداث التي ذكرتها في فصل المهدي علم أسباب هذه الغضبة ، والتي بدأت بالحرب التحالفية التي تم من خلالها القضاء على اليهود في فلسطين ، وهي مرحلة إساءة وجههم المذكورة في سورة الإسراء ، والمعلوم أن اليهود هم الذراع الأيمن للدجال .
ثم الملحمة العظمى التي تم فيها القضاء على شوكة النصارى وهم الذراع الأيسر للدجال ، ثم كان الهجوم على القسطنطينية ، وغزو الروم في عقر دارهم ، ففي ظل هذا الأحداث هاج غضب الدجال غضباً مؤذناً بخروجه وفق قدر الله سبحانه وتعالى ، وكأنه بركان يتململ مع الأحداث إلى أن دانت ساعة الصفر التي قدرها الله سبحانه وتعالى .
العلامة الثانية : حصول القحط .
/ - عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها قَالَتْ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ r فِي بَيْتِهِ فَقَالَ : } إِذَا كَانَ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ بِثَلَاثِ سِنِينَ حَبَسَتِ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا، وَحَبَسَتِ الْأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا ، فَإِذَا كَانَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ ، حَبَسَتِ السَّمَاءُ ثُلُثَيْ قَطْرِهَا ، وَحَبَسَتِ الْأَرْضُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا ، فَإِذَا كَانَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ حَبَسَتِ السَّمَاءُ قَطْرَهَا كُلَّهُ ، وَحَبَسَتِ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ ، فَلَا يَبْقَى ذُو خُفٍّ وَلَا ظِلْفٍ إِلَّا هَلَكَ.. { ([79])
أقول :
الحديث يشير إلى تغيرات مناخية ملحوظة على مدى ثلاث سنوات ، بما يترتب عليه المحل والمجاعة ، وهذا يتناسب مع خروج الدجال وفتنته ، وهذه المرحلة تكون فيما بين الملحمة العظمى وفتح القسطنطينية ، حيث تبدأ الإرهاصات المعززة لفتنة الدجال بالظهور بشكل تدريجي .
والمعلوم أن هذه المرحلة هي مرحلة بناء العالمية الثانية للإسلام ، ويتضح من الآثار أن عملية البناء بعد بعض الانتصارات تتمخض عن بعض الشدائد من باب الابتلاء ، وهي أشبه بمرحلة طالوت التي نال الجيش فيها جهده وبلغ فيه العطش مداه قبل أن يبلغ النهر ليكتـمل الابتلاء بالتضييق عليه بأمر رباني يحدد مستوى الشرب منه من باب الاختبار .
/ - جاء في حديث تميم وسؤال الدجال لهم حيـث قال : } .. أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ قُلْنَا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟ قَالَ : أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ : نَعَمْ ! قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ. قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ قَالَ : هَلْ فِيهَا مَاءٌ ؟ قَالُوا : هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ قَالَ أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ قَالُوا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟ قَالَ هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ قُلْنَا : لَهُ نَعَمْ هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا . { ([80])
أقول :
هذا الحديث يشير إلى بعض علامات خروج الدجال ، وعامتها في بلاد فلسطين ، ولعل هذه العلامات لها علاقة بالجفاف الذي سيحل بالأرض حتى يستنفد ماء البحيرات كبحيرة طبرية ، ويستنفد المياه الجوفية كعين زغر ، ويؤثر على أكثر النبات تحملاً كنخل بيسان ، وذكر هذه العلامات على وجه الخصوص لتميم t ومن معه لأنهم من أهل هذه الأماكن ، والحديث الذي سبقه يشير إلى أن حالة القحط تكون عامة .
كذلك هذه العلامات يعاينها أهل الشام على وجه الخصوص ، وهم في تلك المرحلة يمثلون بيضة المسلمين ورمز قوتهم وعقر دارهم كما بينت في فصل المهدي .
العلامة الثالثة : فتنة الدهيماء .
/ - جاء في حديث الفتن العظام عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وفيه عن رسول الله r : } … ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ لَا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً ، فَإِذَا قِيلَ انْقَضَتْ تَمَادَتْ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ . { ([81])
أقول :
الحديث يشير إلى فتنة الدهيماء ، وهي الفتنة السوداء المظلمة التي تكون بين يدي خروج الدجال وعلامة من علاماته والموطئة لخروجه ، وهذه الفتنة تتميز عن غيرها من الفتن بأنها أشبه الفتن بفتنة الدجال مع فارق في الدرجة ، ولئن كان حظ فتنة الدجال في معيار الفتن هو 100% فإن حظ فتنة الدهيماء يكون 90% ؛ لذا من أراد أن يعرف حقيقة هذه الفتنة ومعالمها فليدرس فتنة الدجال وحبائله واتباعه ، فإنه سيعيش مع نفس الوصف من الدجل والتلبيس على الناس والتضييق على عباد الله ، وسيكون أتباع هذه الفتنة وأنصارها هم طليعة أتباع فتنة الدجال ، طبعاً مع مراعاة الفارق في الدرجة بين الفتنتين .
وسبق أن بينت علاقة هذه الفتنة في نهايتها بحسر الفرات عن جبل من ذهب ، وكذلك علاقتها بآية الدخان وعلاقتها بخروج المهدي ، وهذه الأحداث مترابطة ومتصلة ومتشابكة ، فراجع هذا التفصيل في مواضعه .
العلامة الرابعة : وقوع أمور عظيمة قبل خروج الدجال .
/ - عن سمرة بن جندب t عن رسول الله r في خطبته بعد كسوف الشمس ، حيث جاء فيها : } .. وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابًا آخِرُهُمْ الْأَعْوَرُ الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى ... وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى تَرَوْا أُمُورًا يَتَفَاقَمُ شَأْنُهَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَتَسَاءَلُونَ بَيْنَكُمْ هَلْ كَانَ نَبِيُّكُمْ ذَكَرَ لَكُمْ مِنْهَا ذِكْرًا وَحَتَّى تَزُولَ جِبَالٌ عَلَى مَرَاتِبِهَا .وفي رواية الحاكم وابن أبي شيبة:عن مراسيها { ([82])
شرح :
هذا الحديث سبق شرحه في آية الدخان و الحدث الكوني والشاهد فيه هنا هو أن خروج الدجال يسبقه بعض الأمور العظيمة التي تتأثر بها الأمة كلها ، بل يتحيرون متسائلين : هل هذه العظائم لها ذكر في هدي النبي r ؟ وهذا يشير إلى مدى خطورة ما سيقع والذي من بينها زوال الجبال ، وقد فصلت القول في تصوراتي لهذه العظائم في الحدث الكوني ، فراجعه ، وفي ظني أن إرهاصات هذه العظائم قد بدأت في عصرنا ، ونسأل الله السلامة .
العلامة الخامسة : اشتداد الفساد والجهل والبغضاء في الأرض .
/ - عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : « لَمَّا فُتِحَتْ إِصْطَخْرُ نَادَى مُنَادٍ أَلَا إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ
خَرَجَ قَالَ فَلَقِيَهُمُ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ قَالَ : فَقَالَ : لَوْلَا مَا تَقُولُونَ لَأَخْبَرْتُكُمْ أَنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ : } لَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَذْهَلَ النَّاسُ عَنْ ذِكْرِهِ وَحَتَّى تَتْرُكَ الْأَئِمَّةُ ذِكْرَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ . { ([83])
/ - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي خَفْقَةٍ مِنَ الدِّينِ وَإِدْبَارٍ مِنَ الْعِلْمِ .. { ([84])
/ - عن أبي الطفيل قال : » كنت بالكوفة فقيل خرج الدجال قال فأتينا على حذيفة بن أسيد وهو يحدث فقلت : هذا الدجال قد خرج ! فقال : اجلس فجلست فأتى علي العريف فقال : هذا الدجال قد خرج وأهل الكوفة يطاعنونه ! قال : اجلس فجلست فنودي أنها كذبة صباغ . قال فقلنا : يا أبا سريحة ما أجلستنا إلا لأمر ، فحدثنا قال : إن الدجال لو خرج في زمانكم لرمته الصبيان بالخذف ولكن الدجال يخرج في بغض من الناس وخفة من الدين وسوء ذات بين .. { ([85])
شرح :
- هذه الروايات تشير إلى طبيعة المرحلة التي يخرج فيها الدجال ، وهي انتشار الجهل وضعف الوازع الديني وانتشار البغضاء بين الناس ، وذهول الناس عن ذكر الدجال حتى الأئمة يتركون ذكره على المنابر ، أي أن مرحلة خروج الدجال هي حالة مطبقة من الغفلة والجهل الممزوجة بالفرقة والبغضاء بين الناس ، وهذا التوصيف لهذه المرحلة يفضي إلى إشكال واضح وهو القول بأن هذه المرحلة بهذا التوصيف لا تتناسب والقول بأن الدجال يخرج في مرحلة المهدي t ، أو في مرحلة الانتصارات العظمى للطائفة المنصورة في آخر الزمان لأن الطائفة المنصورة أو الفئة المؤمنة في ذلك الزمان تكون على بينة من أمر الله سبحانه وتعالى ؛ خاصة أنه قد ظهرت معالم المرحلة بصورة جلية لديهم ؛ لذا يتصور توقعهم لخروج الدجال في كل لحظة ، ويتصور الإكثار من ذكره لا العكس ، وهذه النتيجة اللازمة عن طبيعة المرحلة تتعارض كلياً مع ما وصفته الآثار السابقة .
وهذا الإشكال يمكن الإجابة عليه بالقول أن المراد بهذه الآثار عموم الناس وليس الطائفة المنصورة التي يكون كل جهدها في الشام ، بل يراد بها أهل المشرق على وجه العموم ، فتلك الساحة كما فُهم من خلال فصل المهدي تكون خالية حتى من بعض الطائفة المنصورة التي كانت متواجدة هناك ثم توجهت لمركز الصراع نحو الشام وإيلياء ، وخلفت وراءها هناك كل من حصدتهم فتنة الدهيماء ، وهؤلاء يتصور فيهم خفة الدين وانتشار البغضاء و إطباق الجهل وإدبار العلم ، والذهول عن ذكر الدجال ؛ إذا هذه الآثار تتكلم عن عموم الحال الذي يستثنى منه أهل الطائفة المنصورة المتركزة في ذلك الوقت فقط في الشام من الدرجة الأولى وفي الحرمين من الدرجة الثانية وهذا صرحت به بعض الأحاديث التي تبين طبيعة تحركات الدجال وتوجهه نحو مكة والمدينة ، فيحفظها الله بالملائكة ثم يتوجه إلى الشام ، وفي بعض الآثار تعجبت الصحابية أم شريك بنت أبي العكر من تلك الهجمة الشرسة وقالت : « يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : هُمْ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ وَجُلُّهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ » فالمراد بالعرب هنا أهل الإسلام القائمين بأمر الله ، وقد بين النبي أن أكثرهم في بيت المقدس ، وهم قلة قياساً على عموم الأمة .
لذا الأحاديث السابقة تشير إلى عموم حال الأمة أو الناس ، يستثنى منهم القليل وهم الطائفة المنصورة في الشام فقط .
خلاصة القول في زمان خروج الدجال وعلاماته
أول علامات خروج الدجال فتنة الدهيماء التي تعصف بكل الأرض بما يشبه فتنة الدجال .
تنتهي فتنة الدهيماء بالتمييز بين أهل الإيمان وأهل النفاق ، وأهل الإيمان ييسر لهم بتأييدات ربانية إقامة دولة الإسلام الثانية ، ويتصور هذا في زمن المهدي t ، فتجيش الجيوش ضده بما يمهد للملحمة العظمى .
يتم القضاء على شوكة الروم في الملحمة العظمى، وتكون عاصمة المسلمين بيت المقدس .
يتحرك المسلمون نحو القسطنطينية ليفتتحوها ، وذلك يكون بعد ست سنوات من بداية الملحمة العظمى ؛ حيث لا نعلم كم تستمر .
في تلك الأثناء تطرأ تغيرات مناخية ملحوظة تستمر من السنة الرابعة من بداية الملحمة إلى السابعة .
انتصار المسلمين في الملحمة العظمى وتوجههم لفتح القسطنطينية يمهد للمسلمين السيطرة على العالم كله و إقرار الحق والعدل في جميع الأرض فيغضب الدجال ، فيخرج في أثر غضبته لكي يقطع على المسلمين هدفهم المنشود .
المطلب الثالث : مكان خروج الدجال
/ - عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ t أن رَسُولُ اللَّهِ r قَالَ : } الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ. {([86])
شرح الغريب :
خراسان : بلاد معروفة واسعة بين بلاد ما وراء النهر وبلدان العراق ، وهي تشمل حالياً جزء كبير من شرق إيران وأفغانستان و وأجزاء من بعض الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزء من الاتحاد السوفيتي سابقاً مثل أوزباكستان ، وطاجيكستان .
وجوههم كالمجان المطرقة : المجان هي التروس والمطرقة أي التي عليها جلد ملصق على ظهرها ، وهذا الوصف للوجوه موجود في طائفة الترك ( التتر ) والأوزبك .
/ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْيَهُودِ عَلَيْهِمُ التِّيجَانُ. { ([87])
/ - وجاء من كلام رسول الله r تعقيباً على ما أخبر به تميم : } .. أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ . { ([88])
أقول :
قول النبي r بعد ذكر المشرق كلمة ( ما هو ) لا يراد بها النفي ، بل هي زائدة ، والتكرار هنا للتأكيد على أن الدجال يخرج من جهة المشرق .
/ - عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله r : } يخرج الدجال من ها هنا ، وأشار نحو المشرق . { ([89])
قال ابن حبان بعد إخراجه لهذا الحديث : » قول أبي هريرة ( وأشار نحو المشرق ) أراد به البحرين لأن البحرين مشرق المدينة وخروج الدجال يكون من جزيرة من جزائرها لا من خراسان والدليل على صحة هذا أنه موثق في جزيرة من جزائر البحر على ما أخبر تميم الداري، وليس بخراسان بحر ولا جزيرة.« ([90])
شرح :
اعتبار ابن حبان أن الدجال يخرج من البحرين يتعارض مع ما ثبت في نصوص كثيرة من أن المقصد بجهة المشرق خراسان أو أصبهان ، و استدلاله بقصة تميم ليس في محله ؛ إذ إن المقصود بخروج الدجال مبدأ فتنته ، وليس مكان ميلاده أو مكان بقائه في الجزيرة ، وبالتالي ليس هناك تعارض بين حديث تميم والأحاديث التي تحدد مكان خروجه ، ويكون المقصود أن الدجال موثق حالياً في إحدى الجزر في البحر ، وعندما يأتي وعد الله يتحرك للمنطقة التي سيخرج منها بفتنته ويتحرك منها أتباعه ؛ كذلك القول أن الدجال في إحدى جزائر الخليج العربي قرب البحرين ليس في محله كما بينت سابقاً .
/ - عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ : قال رَسُولُ r عن الدَّجَّال : } إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا . { ([91])
شرح الغريب :
خلة بين الشام والعراق : أي خارج قبالة الشام والعراق ؛ أو في موضع بين الشام والعراق ، جاء في بعض الروايات للحديث حلة بالحاء المهملة ، وهي نفس المعنى ، وجاء في كتاب العين أن الحلة موضع حزن وصخور ، وقد يراد به موضع مخصوص في بادية الشام من ناحية العراق ، والراجح أنها خلة ، ويقصد بها أنه خارج بين البلدين دون تحديد لجهة مقصودة .
خلاصة القول في مكان خروج الدجال
يتضح من الأحاديث السابقة أن الدجال يخرج من ناحية الشرق ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إنما الخلاف ينصب على تعين جهة مخصوصة لخروجه .
يتضح من بعض الأحاديث أنها عينت أن خروج الدجال من ناحية خراسان ، وهو إقليم كبير يتوزع حاليا في عدة دول ، وجاء في بعضها أنه يخرج من يهودية أصبهان ، وأصبهان في إيران ، لكن الرواية الراجحة أنه يتبعه من أصبهان سبعون ألفاً من يهودها ، و وفقاً للرواية الراجحة لا يلزم من إتباع يهود أصبهان للدجال أنه يخرج منها ، وعلى العموم تعتبر أصبهان قريبة أو ضمن إقليم خراسان ؛ لذا يكون ذكر أصبهان هنا من باب التخصيص .
يتضح من شكل أتباع الدجال أن بداية خروجه سيكون قريباً من القومية الأوزبكية على وجه الخصوص ، وبالتالي إما يكون في شمال شرق إيران أو يكون في بداية خروجه في دولة أوزباكستان أو ما جاورها .
جاء في بعض الروايات الصحيحة أن الدجال خارج في خلة بين الشام والعراق ، ولا تعارض بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى ؛ إذ قد يكون له عدة خرجات بدايتها في أصبهان وخراسان ، ثم ينتقل ناحية الغرب فيتركز فيما بين العراق والشام .
المطلب الرابع : أتباع الدجال
أولا: اليهـود .
/ - عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ { ([92])
شرح الغريب :
الطيالسة : الطيلسان كساء غليظ مخطط .
شرح :
يلحظ من الأحاديث الصريحة بأن الدجال يتبعه من يهود أصبهان فقط سبعون ألفاً ، و هذا الحديث لا يدل على اقتصار أتباع الدجال من اليهود على السبعين ، بل هؤلاء هم شرارة الدجال الأولى في أول مخرجه ، وإذا كان أتباعه من أصبهان سبعين ألفاً ، فيتصور أن يكون أتباعه من غيرها أكثر بكثير ، وقد ورد في بعض الآثار أن عامة أتباع الدجال يكون من اليهود .
ومن تعرف على العقلية اليهودية يجد أنها أنسب العقليات إتباعاً للدجال ونصرة لفتنته ، فاليهود من بداية ديانتهم ، وهم يرفضون إلهاً يغيب عن أعينهم ؛ لذا طلبوا من موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة ، وهم الذين طلبوا من موسى عليه السلام بعد نجاتهم من فرعون وخروجهم من البحر أن يجعل لهم آلهة يعكفون عليها ، وهم الذين وقعوا مباشرة في فتنة العجل بعد غياب قصير لموسى عليه السلام ، فهذه الوقائع في زمن نبيهم تدل على عقلية منحرفة مريضة لا تؤمن إلا في المشاهدات ، يضاف إلى ذلك أنها عقلية شهوانية مادية لا تترعرع إلا في ظلها ، ولا تؤمن إلا بها ، يضاف إلى ذلك أنها أكثر ملة في الملل حرفت في تعاليم الله سبحانه وتعالى وشوهت صورة الأنبياء ، بل تعدى الأمر إلى التجديف بالكفر صراحة بوصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق به .
فإذا أضفنا إلى ذلك أن اليهود ينتظرون مخلصاً لهم في آخر الزمان ، ويصفونه بأنه ملك السلام الذي بشروا به ، ناسب ذلك أن يكون مخلصهم هو الدجال بعينه ، وناسب ذلك أن يكون إلههم الذي كانت تتشوف نفوسهم إليه ؛ هذا الإله المادي الذي يرعى شهواتهم ، ويلاحق أهواءهم.
ثانياً : الفرق المارقة والخوارج .
/ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } يَنْشَأُ نَشْءٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْـرِينَ مَرَّةً ، حَتَّى يَخْرُجَ فِي عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ . { ([93])
شرح الغريب :
تراقيهم : الترقوة العضم الذي بين أعلى الصدر والعاتق ، ويراد به هنا أن القرآن لا يصل إلى قلوبهم فيوعوه ، بل يقتصر على قراءة اللسان دون تعقل .
خرج قرن : أي ظهرت طائفة منهم .
/ - عن أبي برزة في حديث طويل عن الخوارج وفيه عن رسول الله