علاقة المسيح الدجال بابن صياد
المسيح الدجال
فتنته وعلاقته بابن صياد
إعداد
الدكتور / محمد احمد المبيض
ملاحظة / هذا البحث جزء من سلسلة طويلة من الأبحاث المتعلقة بالفتن والملاحم
=r =عليه الصلاة والسلام،
توطئـة :
- تواترت الأحاديث الدالة على خروج رجل في آخر الزمان يعرف بالدجال ، وهذا الرجل تكون فتنته هي أعظم فتنة عرفتها البشرية ، وتوافق فتنته بعض الخوارق التي تؤتى له من باب الاستدراج للنفوس الضعيفة ، وتدوم فتنته في الأرض أربعون يوماً : يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع ، وباقي أيامه كسائر الأيام . ومذهب أهل الحق في صحة وجوده ، وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى في إحياء الميت الذي يقتله ، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه ، و جنته وناره ونهريه واتباع كنوز الأرض له ، وأمره السماء أن تمطر فتمطر ، و الأرض أن تنبت فتنبت ، فيقع كل ذلك بقدرة الله ومشيئته ، ثم يعجزه الله سبحانه وتعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ، ويبطل أمره ويقتله عيسى r =عليه الصلاة والسلام، ويثبت الله الذين آمنوا ، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافاً لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة ، وخلافاً للبخاري المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم أنه صحيح الوجود ، ولكن الذي يدعي مخارف وخيالات لا حقائق لها ، وزعموا أنه لو كان حقاً لم يوثق بمعجزات الأنبياء ، وهذا غلط من جميعهم لأنه لم يدع النبوة ، فيكون ما معه كالتصديق له ، و إنما يدعي الإلهية ، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه ، ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي بين عينيه . « أ . هـ ([1])
- ذهب بعض أهل العصر إلى مقولة غريبة ، فأول أحاديث الدجال تأويلاً فاسداً لا يستقيم ، واعتبر أن المراد بها ليس شخصاً بعينه بل المقصود بها الحضارة الغربية ، لأنها حضارة عوراء لا تعتمد إلا على الجانب المادي فقط ، وهذا تأويل فاسد يكفر من يعتقده ؛ لأن النصوص على صراحتها لا تحتمله ، وهي نصوص متواترة والإجماع منعقد على أنه يراد بها شخص بعينه .
ولو استخدم معول التأويل في النصوص على هذه الشاكلة لما بقى نص على ظاهره ، ومن نظر إلى تاريخ الفرق – خاصة الفرق الباطنية – يجد أن أهم أسباب وقوعها في الكفر هو اعتمادها مثل هذه التأويلات الفاسدة التي أخرجت النصوص عن طبيعتها .
هذا ومن ينظر إلى مجموع أحاديث الدجال يعلم علم اليقين أن مثل هذه التأويلات لا تستقيم بحال ، وتخالف صريح المنقول .
من تتبع النصوص الواردة في المسيح الدجال يجد أننا أمام قسمين :
القسم الأول : لا يترتب على معرفة دقائقه نتيجة عملية واضحة .
ويشمل ظاهرة ابن صياد وقصة تميم الداري ، وهذا القسم في فهمه إشكالات كثيرة ، وقد أشكل على الكثير من العلماء فانقسموا إلى عدة آراء ما بين مرجح لبعض النصوص على غيرها كالبخاري الذي رجح أحاديث ابن صياد على أحاديث الجساسة ، فلم يخرج أحاديثها ، وبين من حاول الجمع بين الأحاديث كالنووي وابن حجر مع اختلاف بينهم في طريقة الجمع .
وهذا القسم لا يعنينا إلا من وجه واحد ، وهو محاولة فهم بعض النصوص النبوية الواردة ، أو فهم بعض المواقف الحاصلة من الصحابة الكرام ، أما في حياتنا العملية فلا أثر كبير له .
وبالرغم من طبيعة هذا القسم إلا أنني آثرت التوسع فيه لأسباب عدة منها : محاولة فهم الظاهرة بشكل تكاملي ، و إقفال الباب على البعض في استغلال النصوص في غير موضعها ، يضاف إلى ذلك فهم جزء من الهدي النبوي المخـرج في الصحاح و الذي أشكل على البعض فهمه .
القسم الثاني : ما يخص ظاهرة خروج الدجال وطبيعة فتنته .
وهذا القسم هو الذي يعنينا من الناحية العملية مع ظاهرة الدجال ، والأصل في كل مسلم أن يكون على دراية به و بملابساته ؛ ليكون محصنا من الناحية العلمية فيما يخص أعظم فتنة على وجه الأرض ، وليكون أهلاً لاحترام الهدي النبوي في التحذير من هذه الفتنة .
القسم الأول : ابن صياد وقصة تميم
وهذا القسم سأتناوله في مبحثين ، وذلك على النحو التالي :
المبحث الأول
ظـاهرة ابن صـياد
تعتبر ظاهرة ابن صياد ظاهرة غريبة جداً عايشها الرسول والصحابة الكرام ، وقد أقسم عدد من كبار الصحابة على أنه المسيح الدجال الذي حذر منه الرسول الكريم ، وكان يرى جمع كثير منهم أنه كذلك ، وهذا الأمر يستوقفنا لتحليل هذه الظاهرة و إبراز وجه الغرابة فيها بشيء من التفصيل ، وذلك في المطالب الثلاثة التالية :
المطلب الأول : ابن صياد في عهد النبي r
/ - ورد عن أبي ذر t أنه قال : » لَأَنْ أَحْلِفَ عَشْرَ مِرَارٍ أَنَّ ابْنَ صَائِدٍ هُوَ الدَّجَّالُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ . قَالَ : } وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r بَعَثَنِي إِلَى أُمِّهِ قَالَ : سَلْهَا كَمْ حَمَلَتْ بِهِ ؟ قَالَ فَأَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ : حَمَلْتُ بِهِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ؟ قَالَ : ثُمَّ أَرْسَلَنِي إِلَيْهَا فَقَالَ : سَلْهَا عَنْ صَيْحَتِهِ حِينَ وَقَعَ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَيْهَا فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ : صَاحَ صَيْحَةَ الصَّبِيِّ ابْنِ شَهْرٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r : إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبْئًا قَالَ خَبَأْتَ لِي خَطْمَ شَاةٍ عَفْرَاءَ وَالدُّخَانَ قَالَ : فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ الدُّخَانَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ : الدُّخُّ الدُّخُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : اخْسَأْ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ . { ([2])
شرح :
موافقة حال ابن صائد للأمارات التي سأل عنها النبي r ، وسؤال النبي r عن أمارات محددة لا بد أن يكون مرجعه الوحي وله علاقة واضحة بأمارات الدجال ،
ولكن الكلام يحتمل أن يراد به دجال من الدجاجلة وليس الدجال الأكبر .
جزم أبي ذر في أن ابن صياد هو الدجال ، وعدم تورعه من القسم بذلك تسع مرات مع تورعه من القسم بأنه ليس الدجال ولو مرة واحدة ، يدل على أنه قد حصل له من الدلائل التي عاينها مع رسول الله r ما يؤكد على ذلك منها ما ذكر ، ولعل أبا ذر رأى من سياق الحدث وتفاعل الرسول معه ما يؤكد ذلك . (_ )
يلحظ من الحديث أن النبي r كان مهتماً بظاهرة ابن صائد اهتماماً خاصاً ، ومعنياً بتتبع تفاصيلها ، ويدل السياق على أن طبيعة أسئلة النبي r عن أشياء مخصوصة لأم ابن صياد إنما مرجعه الوحي .
/ - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } يَمْكُثُ أَبُو الدَّجَّالِ وَأُمُّهُ ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ ، ثُمَّ يُولَدُ لَهُمَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضَرُّ شَيْءٍ ، وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً ، تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، ثُمَّ نَعَتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ r أَبَوَيْهِ فَقَالَ : أَبُوهُ طِوَالٌ ضَرْبُ اللَّحْمِ كَأَنَّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ ، وَأُمُّهُ فِرْضَاخِيَّةٌ طَوِيلَةُ الْيَدَيْنِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ : فَسَمِعْنَا بِمَوْلُودٍ فِي الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ ، فَذَهَبْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبَوَيْهِ ، فَإِذَا نَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ r فِيهِمَا فَقُلْنَا هَلْ لَكُمَا وَلَدٌ فَقَالَا : مَكَثْنَا ثَلَاثِينَ عَامًا لَا يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ ، ثُمَّ وُلِدَ لَنَا غُلَامٌ أَعْوَرُ أَضَرُّ شَيْءٍ وَأَقَلُّهُ مَنْفَعَةً تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ، قَالَ فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمَا فَإِذَا هُوَ مُنْجَدِلٌ فِي الشَّمْسِ فِي قَطِيفَةٍ لَهُ وَلَهُ هَمْهَمَةٌ فَتَكَشَّفَ عَنْ رَأْسِهِ فَقَالَ : مَا قُلْتُمَا . قُلْنَا : وَهَلْ سَمِعْتَ مَا قُلْنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي . {وفي رواية الإمام أحمد } ..فَقَالَ أَبُوهُ – أي الدجال - رَجُلٌ طُوَالٌ مُضْطَرِبُ اللَّحْمِ طَوِيلُ الْأَنْفِ كَأَنَّ أَنْفَهُ مِنْقَارٌ
وَأُمُّهُ امْرَأَةٌ فِرْضَاخِيَّةٌ عَظِيمَةُ الثَّدْيَيْنِ . { ([3])
شرح الغريب :
طوال : شديد الطول . ضرب اللحم : خفيف اللحم
فرضاخية : ضخمة . منجدل : ملقى على الجدالة ، وهي الأرض
همهمة :كلام غير مفهوم .
شرح :
الأثر فيه إشارة عجيبة ، وهي أن النبي r قد تحدث عن بعض أوصاف الدجال وأوصاف والديه ، وقد وجدت هذه الأوصاف بصورة مطابقة في ابن صياد ووالديه ، ولكن ليس في الحديث دلالة على أنه الدجال صاحب الفتنة العظمى ، و إن كان الحديث يعزز هذا الرأي ، ولكنه يحتمل أن النبي r قد أُبلغ عن أوصاف دجال من الدجالين فنعتها النبي r لصحابته ، ثم تبين أن المراد منها ابن صياد ، وعلى هذا الاحتمال يكون الوصف في الحديث لا يراد به الدجال الأكبر .
يتضح من حال ابن صياد أنها تخالف حال البشر الأسوياء في الشكل والمضمون ، وهذا واضح من كونه تنام عيناه و لا ينام قلبه ، وهذا الأمر مخالف لطبيعة البشر ، وهي خارقة من خوارق ابن صياد العديدة .
دلالة الحديث تشير إلى أن أبا بكرة – راوي الحديث بعدما سمع عن الدجال وأوصافه سمع بمولود في المدينة عند اليهود له نفس الأوصاف وكلمة مولود تشير إلى قرب ولادته ، فيكون مقتضى الحديث أنه ولد إما في السنة الثانية أو الثالثة من الهجرة ، وهذا المقتضى يتعارض مع حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي سيأتي ، والذي يدل على أن النبي r قد ذهب إلى ابن صياد وقد قارب الحلم ؛ أي البلوغ ، مما يدل على أنه ولد إما في بداية العهد النبوي ، أو قبله بقليل وهو ما أرجحه ؛ إذ كيف يكون ولد في هذا الوقت ، وقد ثبت أن النبي التقى مع ابن صياد وقد قارب البلوغ والمعلوم أن مدة النبي r في المدينة كانت عشر سنوات تقريباً .
والراجح عندي في هذه المسألة هو حديث ابن عمر رضي الله عنهما التالي ؛ فإنه قد رواه مسلم في صحيحه ، أما حديث أبي بكرة فهو وإن اعتبره الترمذي حديثاً حسناً إلا أن فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ليس بالقوي كما صرح ابن حجر وغيره ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن إسلام أبي بكرة وقدومه للمدينة كان في سنة الفتح ؛ أي سنة ثماني للهجرة ، فكيف يكون قد التقى بابن صياد وهو قريب ولادة ، وفي نفس الوقت التقى به النبي r في نفس المدة وهو قد قارب البلوغ .
لذا ترجح روايات مسلم عن ابن عمر على حديث أبي بكرة t عند الترمذي وأحمد ، وهناك وجه للجمع بين الحديثين وهو أن قول أبي بكرة بأنه سمع بمولود عند اليهود لا يراد به قرب الولادة ، بل للدلالة على حصول ولد عندهم بهذه الأوصاف.
ويعزز هذا الاحتمال أمران :
الأمر الأول :
إن أبا بكرة عندما ذهب لابن صياد حصل بينهم كلام مما يدل على أن ابن صياد كان كبيراً نوعا ما ، وإلا لا يتصور مثل هذا الكلام من قريب ولادة .
الأمر الثاني :
لاحظنا من سياق الحديث أن أم ابن صياد عندما سئلت عن ابنها قد أخبرت بأنها وُلِدَ لها غلام أعور أضر شيء وأقله منفعة ، ومعرفة الأم لوضع ابنها بأنه أقله منفعة لا يتأتى وهو قريب ولادة ، إذ لا يتصور منه النفع في ذلك الوقت ، لكن إذا كبر الولد وبدأ الأهل يطلبون منه بعض الأشياء عندها يتضح لهم إذا كان كبير نفع أو قليله ، وهذا لا يتصور إلا إذا قارب الولد البلوغ ، ففي مثل هذه السن يرجى نفعه ؛ لذا كانت زيارة أبي بكرة له في السنة الثامنة ، وهو قريب من البلوغ ، وهذا الوجه محتمل ، وبه يمكن الجمع بين الأحاديث .
/ - عن ابْنَ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا : } أَنَّ عُمَرَ t انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ r فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِيُّ r بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ صَيَّادٍ : تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ . فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ . فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ r : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، فَرَفَضَهُ ، وَقَالَ : آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ . فَقَالَ لَهُ : مَاذَا تَرَى ؟ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ . فَقَالَ النَّبِيُّ r خُلِّطَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ r : إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا . فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ : هُوَ الدُّخُّ فَقَالَ : اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ . فَقَالَ عُمَرُ t : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ . فَقَالَ النَّبِيُّ r : إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ ، وَقَالَ سَالِمٌ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا يَقُولُ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ r وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا ، قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ ، فَرَآهُ النَّبِيُّ r وَهُوَ مُضْطَجِعٌ يَعْنِي فِي قَطِيفَةٍ لَهُ فِيهَا رَمْزَةٌ أَوْ زَمْرَةٌ ، فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ r وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ : يَا صَافِ –وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ – هَذَا مُحَمَّدٌ r فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ r لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ .{ ([4])
وفي رواية قَالَ النَّبِيُّ r لابن صائد : } مَا تَرَى قَالَ أَرَى عَرْشًا فَوْقَ الْمَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ r تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ فَوْقَ الْبَحْرِ قَالَ فَمَا تَرَى قَالَ أَرَى صَادِقًا وَكَاذِبِينَ أَوْ صَادِقِينَ وَكَاذِبًا قَالَ النَّبِيُّ r لُبِسَ عَلَيْهِ . { ([5]) وفي رواية : } ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r - أي لابن صائد - إِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئَةً وَخَبَّأَ لَهُ ( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَـاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ) قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ : هُوَ الدُّخُّ . { ([6])
وفي رواية : قال رسول الله r لابن صائد : } قَالَ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَ الْغُلَامُ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا مَرَّتَيْنِ .{ ([7])
/ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لِابْنِ صَائِدٍ : } مَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ قَالَ : دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ مِسْكٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ : صَدَقْتَ . { ([8])
/ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ t قَالَ : ذُكِرَ ابْنُ صَيَّادٍ عِنْدَ النَّبِيِّ r فَقَالَ عُمَرُ t : ) إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا كَلَّمَهُ (([9])
شرح :
هذه الأحاديث برواياتها المتعددة والحديث الذي سبقه يتطلب منا بعض الوقفات المعينة على فهم ظاهرة ابن صياد وعلاقتها بالدجال الأكبر .
الوقفة الأولى : ظاهرة ابن صياد وعلاقتها بالدجال الأكبر .
لكي تتضح لنا حقيقة ظاهرة ابن صياد ، ولكي لا تختلط علينا الأوراق في فهم علاقتها بظاهرة الدجال الأكبر أرى أن أرتب فهمي لمدلولات سياق روايات هذه الأحاديث والحديث الذي يسبقه على النحو التالي :
يتضح من سياق هذه الحديث والتي سبقتها أن النبي r قد أُخبر عن طريق الوحي بأن هنالك فتنة عظيمة تكون على يد الدجال هي أعظم فتنة على وجه الأرض ، لكن كان الوحي مجملاً في بيان حقيقة الدجال و اقتصرت على بيان صفاته ؛ أي لم يكن النبي r يعلمه على وجه الخصوص ، أو يعلم وقت خروجه ، فأخبر صحابته الكرام عنها بصيغة مجملة ، وكان من سياق بعض الأحاديث الواردة عن الدجال ما يشير إلى قرب خروجه ، منها ما ورد عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ t قَالَ : } ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ r الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟ قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ فَقَالَ : غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. ( ([10])
فهذا الحديث يشير إلى أن النبي r لم يكن يعلم عند ذكر هذا الحديث وقت خروجه ، وسياقه يشير إلى أن النبي r كان يرى قرب خروجه حتى قال بعض الصحابة » حتى ظنناه في طائفة النخل « ، وبالتالي كان عدد من الصحابة يرون أن خروجه قريب جداً .
يضاف إلى ذلك أن النبي r أُخبر عن طريق الوحي عن أوصاف أحد الدجالين وطبيعة ميلاده وأبويه كما يتضح من الحديث الأول ، فأخبر صحابته بذلك ، فعندما رأوا هذه الأوصاف تنطبق على ابن صياد جاءوا إلى النبي r وأخبروه به ، وأخبروه ببعض أعاجيبه ؛ فأراد النبي r أن يعلم خبره ، ودلالة الحديث تشير إلى أن النبي r كان متوقفاً في الحكم عليه ؛ أي لم يكن عند النبي r بيان من الوحي أن ابن صياد هو الدجال الأكبر بعينه أم هو دجال من الدجالين ، ودلالة الحديث على ذلك واضحة عندما طلب عمرt من النبي r أن يقتل ابن صياد فقال له الرسول r : إن يكنه فلن تسلط عليه ، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله ، والدلالة واضحة بأن النبي r لم يقطع بأنه الدجال أو غيره ، وسنلحظ أن توقف النبي r عن الجزم بحقيقة ابن صياد سيكون له أثره على عمر بن الخطاب t؛ وعلى رأيه في شأن ابن صياد .
يتلخص مما سبق تصور طبيعة الحديث النبوي عن الدجال مقارنة مع تطور مجريات الأحداث ، ففي بداية العهد المدني كان الكلام عن الدجال عاما مجملاً مع تصور قرب خروجه – وافق الكلام عن الدجال الحديث عن ميلاد دجال لأبوين لهما أوصاف محددة – مطابقة الأوصاف التي ذكرها النبي على ابن صياد – تَعَرُّف بعض الصحابة على ابن صياد وغرائبه مما أكد لديهم كونه الدجال الذي يعنيه النبي r في أحاديثه – تبليغ النبي r بخبر ابن صياد وعجائبه – تحرك النبي r لمعرفة حقيقة ابن صياد وتوقفه في الحكم عليه مما يدل إلى أنه ليس هناك قول فصل من الوحي فيما يخص ابن صياد هل هو الدجال الأكبر أم غيره وإن كانت قرائن حاله محتملة للأمر – وقوع قصة تميم و إقرار النبي r لها مما يشير إلى أن الدجال الأكبر ليس هو ابن صياد ، وإنما هو دجال من الدجالين - تعيين الوحي للنبي r عن إمارات ومكان خروج الدجال .
هذا في ظني هو بيان لتدرج الإرشاد النبوي عن ظاهرة الدجال من الإجمال إلى التفصيل وتداخل ظاهرة ابن صياد معها ، ومن نظر نظرة متفحصة لمجموع الأحاديث السابقة يحصل له هذا التصور التدريجي لهذه الظاهرة ، لكن سنلحظ أن ظاهرة ابن صياد ستبقى محافظة على قرائن قوية معززة لكونه الدجال الأكبر بالرغم من ورود قصة تميم عن الدجال الذي رآه ، وهذا يزيد من غرابة هذه الظاهرة .
الوقفة الثانية : غرابة ظاهرة ابن صياد :
من تتبع روايات الأحاديث السابقة يجد نفسه أمام ظاهرة غريبة جداً وقعت مع غلام صغير ويظهر من سياق الحديث أن غرائب ابن صياد كانت أكثر من ذلك ، ولعل النبي r قد سمع من صحابته الكثير ؛ لذا جـاء ليستبين أمره ، فكانت هذه الغرائب التي
رآها في لقاء واحد ، والتي يمكن إجمالها في التالي :
إخباره عن عرش إبليس في الماء .
معرفته بعض ما يضمر النبي r فيما يخص آية الدخان
إخباره عن تربة الجنة و إقرار النبي r له .
زعمه أنه لا يمر على شيء إلا حدثه .
إخباره عن صادق وكاذبين أو كاذب وصادقين ، وفي هذا الإخبار قال النبي r أنه لُبِّسَ عليه .
هذه بعض غرائب ابن صياد – و سيأتي بيان وقوع غيرها مع ابن صياد والصحابة - ولو نظرنا إليها لوجدنا أنها تعزز كون ابن صياد هو الدجال ؛ إلا أنها ليست جازمة في الدلالة ؛ لأنها عبارة عن حالة شيطانية من جنس الأحوال الشيطانية التي يقع فيها السحرة والكهان ؛ فرؤيته لعرش إبليس يدل على أنه له علاقة شيطانية خاصة تمكنه من رؤية أشياء مخصوصة ، ولعل الشيطان يكون في تلك الحالة قد تلبسه بالكامل ، وأعانه على تلك الرؤيا ، أما إخباره عن بعض ما يضمر النبي r بقوله : هو الدخ ، فواضح أنه من جنس ما يقع للكهان بفعل الشيطان ؛ لذا قال له النبي r مباشرة اخسأ فلن تعدو قدرك ؛ أي لن تجاوز قدرك وقدر الكهان أمثالك الذين يحفظون من إلقاء الشياطين كلمة من جمل كثيرة .
ومثل هذه الأحوال الشيطانية يتكرر مثلها على مر العصور ، و قد يزيد بعضهم عن قدرة ابن صياد إلا أنها واضحة في أنها حال شيطاني ، ومن هذه الأحوال ما كان يقع للأسود العنسي الذي ادعى النبوة ، فقد كانت تأتيه الشياطين تخبره ببعض الأمور المغيبة – وليست الغيبية – فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين كفره فقتلوه .
ومنهم الحارث الدمشقي الذي خرج زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة ، وكانت الشياطين تمنع السلاح أن ينفذ فيه ، وكانت تخرج رجليه من القيد .
ومنهم من كانت تطير به الجن في الهواء وتنقله إلى أماكن بعيدة ، ومنهم من كان يكاشف بعض الحاضرين بما في قلبه … إلخ ([11])
و لعل الذي يميز هذه الأحوال الشيطانية عن بعض ما يحصل من كرامات للصالحين أن أحوالهم الشيطانية في الغالب تقترن بالمعاصي أو المنكرات أو ما يدل على أنهم من أولياء الشيطان، ووقوعها يكون من باب الاستدراج لأصحاب النفوس الضعيفة .
إذا يتضح لنا أن غرائب ابن صياد ليس فيها دلالة صريحة على أنه الدجال ، وإن كانت تعزز ذلك .
الوقفة الثالثة : لِمَ لَمْ يأذن النبي r لعمر t بقتل ابن صياد .
يتضح لنا من الأحاديث السابقة أن النبي r منع عمر t من قتل ابن صياد ، والسبب بينه النبي r بأن هناك احتمالين في ظاهرة ابن صياد :
الاحتمال الأول :
إما أن يكون ابن صياد هو الدجال الأكبر ، وفتنته لا محالة واقعة لأنها جزء من قضاء الله وقدره الحتمي ، وبالتالي لن يستطيع عمر t أن يسلط عليه بقتله .
الاحتمال الثاني :
هو أن لا يكون ابن صياد الدجال الأكبر ؛ لذا لا يكون في قتله خير لعمر t لأن ابن صياد غلام لم يبلغ الحلم بعد .
وهناك تعليل آخر بأن هناك مهادنة كانت بين يهود المدينة والنبي r ؛ فيكون في قتل ابن صياد وهو صبي من اليهود مدعاة لإثارة الفتنة ، وأرى أن التعليل الأخير بعيد ، خاصة إذا علمنا أن ظاهرة ابن صياد قد أثيرت في مراحل متأخرة من العهد المدني كما يتضح من سياق بعض الأحاديث ، وفي هذه المرحلة كانت قد انتهت كل المعاهدات بين النبي r وبين يهود المدينة ، والتي كان آخرها في السنة الخامسة بعد غزوة الخندق وغزوة بني قريظة .
الوقفة الرابعة : لِمَ حرص النبي r على تتبع أحوال ابن صياد ومعرفة خبره .
كما ذكرت سابقاً أن أحوال ابن صياد قد شاع ذكرها في المدينة واختلط الفهم في توصيفها ؛ لذا وجد النبي r بصفته إمام الأمة ونبيها ضرورة في امتحان ابن صياد وكشف حاله للصحابة الكرام في أن ما يقع معه هو إما ضرب من ضروب الكهانة ، أو حال شيطانية رافقته ؛ وبالتالي يمكن تفسير حرص النبي r على معرفة حقيقة ابن صياد أنه من باب كشف أحوال من يُخاف مفسدته ، ويتوقع منه إثارة الفتن بين المسلمين .
إشكــــــــال
لمـاذا لم يحسم النبي r القول في حقيقة ابن صياد ليتضح أمره للصحابة ؟
/ - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ t قَالَ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي مُسَيْلِمَةَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ رَسُولُ اللَّهِ r فِيهِ شَيْئًا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ r خَطِيبًا فَقَالَ : } أَمَّا بَعْدُ : فَفِي شَأْنِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ أَكْثَرْتُمْ فِيهِ ، وَإِنَّهُ كَذَّابٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كَذَّابًا يَخْرُجُونَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَلْدَةٍ إِلَّا يَبْلُغُهَا رُعْبُ الْمَسِيحِ إِلَّا الْمَدِينَةَ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهَا مَلَكَانِ يَذُبَّانِ عَنْهَا رُعْبَ الْمَسِيحِ . { ([12])
الشاهد في الحديث :
الحديث يتكلم عن فتنة مسيلمة الكذاب ، والملاحظ من سياقه أن الصحابة أكثروا القول فيه ، فما كان من النبي r إلا أن بين حقيقة هذا الرجل بأنه كذاب من ثلاثين كذاب آخرهم المسيح الدجال ، وهذا الحديث يبرز منهج النبي r في شأن هؤلاء الكذابين ، وهو بيان حقيقتهم لئلا يلتبس على الناس أمرهم .
أما في قصة ابن صياد فقد ثبت أن النبي r قد توقف فيها ، ولم يقطع بكونه الدجال أو غيره ، ولم ينقل لنا عدول النبي r عن توقفه بخصوصه ، حتى بعد قدوم تميم ، مع أن المقام مقام بيان في أمر نال اهتماماً كبيراً من رسول الله r ، وأكثر الناس القول فيه .
بل دواعي بيان حقيقة ابن صياد أقوى من بيان حقيقة مسيلمة ، وذلك لسببين هامين :
السبب الأول :
ملاحظة النبي r للالتباس الشديد الذي وقع فيه كبار الصحابة في شأن ابن الصياد ، وسمع بنفسه قسم عمر t بالجزم في أنه الدجال ، وقد يكون هذا القسم وقع من غيره بحضرة النبي r ، ولاحظنا أيضاً موقف أبي ذر ، وسنلاحظ موقف حفصة وابن عمر رضي الله عنهما ، إذا أكثر الصحابة وأكابرهم لُبس عليهم الأمر بشأن ابن صياد ، وهذا مقام يستدعي البيان الشافي في حقه .
السبب الثاني :
المعلوم أن فتنة ابن صياد كانت في قلب المدينة ، ولها علاقة في أذهان الصحابة بأعظم فتنة على وجه الأرض ، والشبهات التي أثيرت حولها شغلت فكر الصحابة ، ونالت الكثير من حديثهم، بينما فتنة مسيلمة فقد كانت بعيدة جداً عن ديار الصحابة .
والسؤال الذي يطرح هنا : لماذا لم يفصل النبي r في القول بشأن ابن صائد ، كما فعل في قصة مسيلمة ، مع أن الدواعي لبيان القول الفصل بشأنه أهم من مسيلمة ؟
وقد يجاب على ذلك بأن النبي r اكتفى في شأنه بما ورد في قصة تميم ، وهذا القول لا يسلم ؛ لأن النبي r وإن أقر تميماً فيما حدث به عن الدجال الموجود في أحد الجزائر ؛ إلا أنه لم يرد عنه أي تصريح بنفي كون ابن صياد أنه الدجال ، وهذا أمر غريب ، خاصة أنه رأى من بعض أصحابه من يقسم بأنه الدجال وكان من حال النبي r التوقف في شأنه قبل ذلك .
أقول : منهج النبي r في ملاحقة أصحاب الفتن وبيان حقيقتهم ، يقتضي قولاً فصلاً بخصوص ابن صياد ، وعدم وجود قول فصل فيه يعتبر قرينة قوية مرجحة أن ابن صياد هو الدجال الأكبر .
وهذا القول يستدعي سؤالاً أخرَ ، وهو ما دام ابن صياد هو الدجال الأكبر ، فلم لم يصدر من النبي r قولاً فصلاً موضحاً لحقيقته ؟
ويجاب عن ذلك أن النبي r اكتفى هنا بالتلميح دون التصريح ، لعدم وجود فائدة ترجى من التصريح ، وحتى لا ينشغل الصحابة في فتنة ليسوا من أهلها أو زمانها ؛ بحيث يكون انشغالهم بما لا ترتجى فائدته ، فتطلبت الحكمة النبوية الاقتصار على التلميح الذي فهم منه كبار الصحابة ، وأقرب الناس من النبي r حقيقة الدجال ؛ أما غيرهم فلا داعي لإشغالهم بذلك .
ويبقى تساؤل في غاية الأهمية : وهو إذا كان ابن صياد هو الدجال ، فما هي حقيقة قصة تميم ؟ حيث إنها تقتضي القول أن الدجال الأكبر مغاير لابن صياد ، وقد أقر النبي r تميم في كل ما أخبر .
وهذا التساؤل غاية في الأهمية وبيانه يفصل القول في حقيقة ابن صياد ، والإجابة عليه مرتبطة بمعرفة حقيقة الدجال ، وهذا بيانه في موضع آخر بعد إتمام موقف الصحابة مع ابن صياد وبيان قصة تميم ثم بيان وجه الجمع بين كل ما ورد .
المطلب الثاني : ابن صياد والصحابة الكرام
/ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ : » خَرَجْنَا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا وَمَعَنَا ابْنُ صَائِدٍ قَالَ : فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَتَفَرَّقَ النَّاسُ ، وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ ، فَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَدِيدَةً مِمَّا يُقَالُ عَلَيْهِ ، قَالَ : وَجَاءَ بِمَتَاعِهِ فَوَضَعَهُ مَعَ مَتَاعِي فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ فَلَوْ وَضَعْتَهُ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ . قَالَ : فَفَعَلَ . قَالَ : فَرُفِعَتْ لَنَا غَنَمٌ فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِعُسٍّ فَقَالَ : اشْرَبْ أَبَا سَعِيدٍ ! فَقُلْتُ : إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ وَاللَّبَنُ حَارٌّ مَا بِي إِلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشْرَبَ عَنْ يَدِهِ أَوْ قَالَ آخُذَ عَنْ يَدِهِ فَقَالَ : أَبَا سَعِيدٍ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلًا فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرَةٍ ثُمَّ أَخْتَنِقَ ، مِمَّا يَقُولُ لِيَ النَّاسُ يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ r مَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، أَلَسْتَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ r ؟ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : هُوَ كَافِرٌ ؟ وَأَنَا مُسْلِمٌ . أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : هُوَ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ ؟ وَقَدْ تَرَكْتُ وَلَدِي بِالْمَدِينَةِ أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ وَلَا مَكَّةَ وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ ؟ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَعْذِرَهُ ثُمَّ قَالَ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ وَأَعْرِفُ مَوْلِدَهُ وَأَيْنَ هُوَ الْآنَ ؟ قَالَ : قُلْتُ لَهُ : تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ !« ([13])
شرح الغريب :
عس : القدح الكبير ، وجمعه عساس
وفي رواية قال ابن صائد لأبي سعيد t : ) وَاللَّهِ مَا أَنَا بِالدَّجَّالِ وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَوْ شِئْتَ لَأَخْبَرْتُكَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ أُمِّهِ وَاسْمِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا . ( ([14])
وفي رواية قال ابن صائد : ) وَاللَّهِ إِنَّي أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَكَانِهِ السَّاعَةَ ( ([15])
أقول :
الآثار واضحة الدلالة في أن ابن صياد هو أحد الدجالين ، وله أحوال شيطانية ، وأنه غير معذور فيما يدعيه ، ففي اللحظة التي كاد فيها أبو سعيد t أن يعذره صرح بأنه يعرف مولد الدجال واسمه واسم والديه ومكان خروجه ، ولا نعلم هل كلامه من باب الدجل الذي يحاول تسويقه على الغير ؛ أم حصلت له هذه المعرفة من خلال تابعيه من الشياطين ، ولا نعلم دافعه من الحديث عن معرفته لمكان الدجال و اسمه ، هل هو استدراج لأبي سعيد لكي يستفهم منه – والصحابة كان عندهم تشوف وحرص لمعرفة كل شيء عن الدجال – أم هو إظهار لخوارقه وقدراته الخاصة ، أم هي غفوة كل دجال ليستبين من حوله حقيقة دجله ، أم هناك نوع اتصال بين دجال المدينة والدجال الأكبر كما أن هناك اتصالاً بين إبليس وأتباعه من سرايا الشياطين .
يتضح من سياق القصة أن أكثر الصحابة كانوا يعتقدون أن ابن صياد هو الدجال ، وإذا أضفنا إلى ذلك أنه لم يرد – في ظني – عن أي صحابي أنه كان يرى عكس ذلك ؛ أي إنه ليس الدجال ، وبالتالي نجد أنفسنا أمام جمع من الصحابة يعتقد ، بل بعضهم يقسم على أن ابن صياد هو الدجال ، ولم يصلنا – في حدود علمي- أي أثر منهم ينكر ذلك ، فأشبهت القضية الإجماع السكوتي من الصحابة الكرام .
يلحظ من سياق قصة أبي سعيد الخدري أن ابن صائد كان يتفنن في الدجل على من حوله ، ويتصور من سياق القصة أن ذلك وقع إما في عهد أبي بكر t وإما في عهد عمر t ، والسؤال الذي يطرح الآن : لماذا لم يقم أحد الخليفتين بتعزيره على ذلك ؟ بالرغم من أن تصرفه يشيع الفتنة بين المسلمين ، ولئن لم يكن الدجال ، وثبت ذلك عند الخليفتين ، ووقع منه دجل ، فهناك دواعي لمعاقبته من قبل الحاكم المسلم ، ولئن كان هناك مانع من معاقبته في عهد النبي r كصغر سن ابن صائد أو بسبب وجود معاهدات بين المسلمين ويهود المدينة ، فهذه الموانع انتفت في عهد الخليفتين ، ومن تتبع المسألة يجد أنه لم يردنا أي شيء عن محاسبة ابن صائد على دجله ، وعدم وقوع هذه المحاسبة فيه دلالة على أن هناك سبباً قوياً غير معهود في امتناع الخليفتين عن ذلك مع انتفاء الموانع الظاهرة وتوفر الدواعي لذلك ، فما هو هذا السبب ؟
المفارقات التي ذكرها ابن صياد بينه وبين الدجال الأكبر لها أهميتها في هذا المقام ، وهي مرجحة لكون ابن صياد ليس الدجال الأكبر ، لكنها غير جازمة ؛ لأن النبي r أخبر مثل هذه الأوصاف عن الدجال الأكبر بأنه لا يدخل مكة والمدينة ، وأنه لا يولد له ولد حين خروجه ، وهذا لا ينفي وقوعه قبل ذلك ، يقول ابن حجر : » أما احتجاجاته – أي ابن صائد – بأنه مسلم إلى سائر ما ذكر ، فلا دلالة له على دعواه ؛ لأن النبي r إنما أخبر عن صفاته وقت خروجه آخر الزمان .« ([16])
/ - - قال أبو سعيد : « وَقِيلَ لَهُ : أبن صائد ! أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ ؛ أي الدجال قَالَ : فَقَالَ : لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا كَرِهْتُ . » ([17])
أقول :
الأثر فيه إشارة إلى أن ابن صائد كان معجباً بشخصية الدجال ، ولا نعلم هل قال هذا الكلام بعد إسلامه أم قبل ؟ وإن كان دلالة سياق أحاديث أبي سعيد تدل على أنه قال ذلك بعد إسلامه مما يشكك بصورة واضحة في مصداقية ادعائه الإسلام .
ولعل إعجابه بشخصية الدجال ، وتمنيه أن يكون هو ، واستعداده وجرأته ليقول هذا الكلام بين جمع يرى الدجال بصورة منفرة جداً مما سمعوا عن حقيقته من رسول الله ، يوضح لنا سبب نفور من حوله منه .
كذلك يحتمل سياق هذا الحديث وسابقه أن يكون ابن صائد نفسه هو الدجال ، وقد استخدم أسلوب التلميح دون التصريح في الدلالة على ذلك ، لعلمه أن التصريح بشخصيته ليس هذا زمانه الذي يعيش به ، و كأنه هنا استخدم أسلوب التقية والمعاريض لإخفاء شخصيته .
/ - عَنْ نَافِعٍ قَالَ : ) لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما ابْنَ صَائِدٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ قَوْلًا أَغْضَبَهُ فَانْتَفَخَ حَتَّى مَلَأَ السِّكَّةَ فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَدْ بَلَغَهَا . فَقَالَتْ لَهُ : رَحِمَكَ اللَّهُ مَا أَرَدْتَ مِنِ ابْنِ صَائِدٍ ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا . ( ([18])
/ - عن ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : كَانَ نَافِعٌ يَقُولُ ابْنُ صَيَّادٍ – أي هو الدجال – قَالَ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: ) لَقِيتُهُ مَرَّتَيْنِ … فَلَقِيتُهُ لَقْيَةً أُخْرَى – أي ابن صياد - وَقَدْ نَفَرَتْ عَيْنُهُ قَالَ فَقُلْتُ : مَتَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ مَا أَرَى ؟ قَالَ : لَا أَدْرِي قَالَ قُلْتُ : لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكَ ؟ قَالَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا فِي عَصَاكَ هَذِهِ . قَالَ : فَنَخَرَ كَأَشَدِّ نَخِيرِ حِمَارٍ سَمِعْتُ ، قَالَ : فَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِي أَنِّي ضَرَبْتُهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعِيَ حَتَّى تَكَسَّرَتْ وَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ قَالَ : وَجَاءَ – أي ابن عمر – حَتَّى دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَحَدَّثَهَا فَقَالَتْ : مَا تُرِيدُ إِلَيْهِ ؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قَالَ – أي رسول الله – إِنَّ أَوَّلَ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى النَّاسِ غَضَبٌ يَغْضَبُهُ . ( ([19])
أقول :
الأثران السابقان يشيران إلى بعض غرائب ابن صياد ، ومدى تأثيره النفسي والشعوري على من حوله ومن هذه الغرائب :
انتفاخه في الطريق أو الزقاق لدرجة أن ابن عمر رضي الله عنهما قال عنه أنه ملأ السكة ؛ أي الطريق .
عدم معرفة ابن صائد كيف ذهبت عينه ، وهذا الأمر يعزز عندنا أن ابن صياد لم يكن يملك نفسه ، بل كان نهبة لتسلط الشياطين عليه من صغره
عدم إحساس ابن عمر رضي الله عنهما بنفسه وهو يضرب ابن صياد ؛ فبالرغم من أنه كسر عصا عليه ؛ إلا أنه لم يشعر بذلك بل تشكك بقول من أخبره بأنه فعل ذلك مما يدل على أنه فقد الشعور بنفسه عندما كان يضربه ، والسؤال الذي يُطرح في هذا المقام : كيف أثر ابن صائد على أحاسيس ابن عمر رضي الله عنهما ؟ طبعاً هذا كان بفعل الشياطين التي وجدت في ابن صياد ثغرة تستطيع النفوذ من خلالها نحو البشر حوله .
لاحظنا من قصة ابن عمر وحفصة رضي الله عنهما أنهما يريان أن ابن صائد هو الدجال ، بل ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقسم على ذلك حيث قال : » وَاللَّهِ مَا أَشُكُّ أَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ابْنُ صَيَّادٍ . « ([20]) و صيغة رد حفصة يؤكد على ذلك ، بل سياق الحديث يشير إلى جزم حفصة رضي الله عنها بهذا الأمر ، وحفصة هي ابنة عمر t وزوجة الرسول r ؛ أي هي أقرب الناس من هذا الشأن وفهم ملابساته ودلالة سياق القصة تشير أن ما وقع مع ابن عمر كان بعد عهد النبي r
إذا نحن هنا أمام أقرب الناس من رسول الله r ( حفص و عبدالله ابن عمر ) ، وهما يجزمان بأن ابن صائد هو الدجال مما يؤكد أنه لم يرد عن النبي r حال حياته ما ينفي هذا التصور الذي اختمر في عقول النخبة من صحابته .
/ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ : } رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ صَائِدٍ الدَّجَّالُ ، فَقُلْتُ : أَتَحْلِفُ بِاللَّهِ ؟ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ t يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ r فَلَمْ يُنْكِرْهُ r { ([21])
أقول :
قسم عمر t بأن ابن صياد هو الدجال ، وذلك على مسمع من رسول الله r
، وعدم إنكار النبي r ذلك عليه (_ ) أمر عجيب ، والذي يستوقفني فيه ما عرف من ورع عمر t وتثبته من الحق ، فما الذي يدفعه للتأكيد بقسم على أمر مشكوك فيه ، وما هي الأمارات التي رآها عمر t ولم نرها وجعلته كالمتيقن بأن ابن صياد هو الدجال ؟ والمعلوم أن عمر هو ملهم هذه الأمة يضاف إلى ذلك أنه من أقرب الناس من رسول الله r وأعلمهم بمقتضيات خطابه ، يضاف إلى ذلك أنه هو الذي عاين مع رسول الله r ظاهرة ابن صياد ، ويتصور أنه قد عاين قصة تميم أو سمع عنها لأن النبي r نادى فيها للصلاة جامعة ، وبالرغم من ذلك لم يُنقل لنا عنه أنه عدل عن يمينه ، أو كفر عنها ، وأمر كهذا لا بد أن ينقل عنه كما نقل عنه ندمه على موقفه في الحديبية ، فلو تبين له أنه تعجل في القسم على أمر مظنون ، ثم ظهر له خلافه لنقل عنه ندمه على ذلك أو تكفيره عن اليمين ، ولعلم بذلك أقرب الناس إليه كابن عمر رضي الله عنهما وحفصة ، ولنقل ذلك عنهما ؛ لأن دواعي نقل مثل ذلك قوية . كذلك أليس غريباً هنا سكوت النبي r عندما سمع قسم عمر ، بل أشعر من سياق الخبر أن عمر ترجحت عنده من دلالات عدة استنبطها من حديث النبي أن ابن صياد هو الدجال ، فأراد أن يعزز هذه الدلالات فأقسم بحضرة النبي r ، ليرى ما يترتب على هذا القسم ، فعندما سكت النبي عن الإنكار عليه ترجح لديه أن ما فهمه من دلالات قد أصاب فيها ، بل يكفي في هذا المقام ما ورد عن أبي ذر حيث قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ : } إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ يَقُولُ بِهِ { ([22]) فإذا كان لسان عمر t لسان حق ، وكلماته العادية كلـمات حق ، بكيف إذا أقسم على هذه الكلمات التي تجري على لسانه . (_ )
لا حظنا أن جابر t يقسم على ما أقسم عليه عمر رضي الله عنهما مما يدل على أن آخر عهده بعمر t هو بقائه على قسمه ، والغريب في الأمر أن أحد رواة حديث تميم كان جابر t وقد جاء فيه فيما رواه أبو سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ : } إِنَّهُ بَيْنَمَا أُنَاسٌ يَسِيرُونَ فِي الْبَحْرِ فَنَفِدَ طَعَامُهُمْ فَرُفِعَتْ لَهُمْ جَزِيرَةٌ فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْخُبْزَ فَلَقِيَتْهُمُ الْجَسَّاسَةُ قُلْتُ لِأَبِي سَلَمَةَ وَمَا الْجَسَّاسَةُ قَالَ امْرَأَةٌ تَجُرُّ شَعْرَ جِلْدِهَا وَرَأْسِهَا قَالَتْ فِي هَذَا الْقَصْرِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَسَأَلَ عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ وَعَنْ عَيْنِ زُغَرَ قَالَ هُوَ الْمَسِيحُ فَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ إِنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئًا مَا حَفِظْتُهُ قَالَ- أي أبو سلمة - : شَهِدَ جَابِرٌ أَنَّهُ هُوَ ابْنُ صَيَّادٍ قُلْتُ : فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ ، قَالَ : وَإِنْ مَاتَ . قُلْتُ : فَإِنَّهُ أَسْلَمَ . قَالَ : وَإِنْ أَسْلَمَ قُلْتُ : فَإِنَّهُ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ قَالَ : وَإِنْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ . { ([23])
الشاهد في الحديث :
إصرار جابر t على أن ابن صياد هو الدجال بالرغم أنه يعلم قصة الجساسة وتميم ، وهو أحد رواتها ، والسؤال الذي يطرح هنا : لما أصر جابر t على ذلك ؟ وما هي الأمارات التي علمها ، واطلع عليها وجعلته متأكداً من كون ابن صياد هو الدجال ؟ ولما لم يجد في قصة تميم ما يغير هذا الإصرار أو يضعفه ؟ بل لم يجد في الأمارات الأخرى كإسلام ابن صائد أو دخوله المدينة أو حتى موته ما يضعف هذا الرأي عنده واستمر على إصراره .
و في ظني أن هناك سراً في الأمر وكان جابر وعمر رضي الله عنهما على إطلاع على ذلك السر والله أعلم ، وإلا لما وجدنا من جابر t مثل هذا الإصرار ، خاصة عند تطرق الاحتمال أو الشك في الأمر ، والمعهود عن الصحابة أنهم يتوقفون فيما لم يتبينوا من صحته.
/ - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ في حديث طويل عن ابن صياد وفيه : « فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ t : ائْذَنْ لِي فَأَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: } إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَسْتَ صَاحِبَهُ إِنَّمَا صَاحِبُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ r وَإِنْ لَا يَكُنْ هُوَ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ ،قَالَ جابر: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ r مُشْفِقًا أَنَّهُ الدَّجَّالُ . { ([24])
أقول :
هذا الحديث ذكرته استئناساً ، ولعله يوضح لنا بعض أسباب إصرار جابر وعمر رضي الله عنهما على أن ابن صائد هو الدجال ، فجابر t رأى استمرار إشفاق النبي r من كون ابن صائد هو الدجال ، ولم ير من رسول الله r ما يغير هذا الإشفاق ، وهذا الإشفاق هو آخر ما عهده جابر t من النبي r، وكلامه يدل على ذلك دلالة صريحة .
/ - عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : » فَقَدْنَا ابْنَ صَيَّادٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ « ([25])
قال ابن حجر : » وهذا يضعف ما تقدم أنه مات بالمدينة ، وأنهم صلوا عليه وكشفوا عن وجهه . « ([26])
المبحث الثاني
قصة تميم والجساسة
/ - عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها قالت : } سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ r يُنَادِي الصَّلَاةَ جَامِعَةً ، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r ، فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِي ظُهُورَ الْقَوْمِ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ r صَلَاتَهُ ، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ : لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ ! ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ! قَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا ، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ ، حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ ، ثُمَّ أَرْفَئُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ .
فَقَالُوا : وَيْلَكِ مَا أَنْتِ ؟
فَقَالَتْ : أَنَا الْجَسَّاسَةُ .
قَالُوا وَمَا الْجَسَّاسَةُ ؟
قَالَتْ : أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ.
قَالَ – أي تميم - : لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً .
قَالَ : فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ .
قُلْنَا : وَيْلَكَ مَا أَنْتَ ؟
قَالَ : قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي ، فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ ؟
قَالُوا : نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ لَا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ ، فَقُلْنَا : وَيْلَكِ مَا أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ : أَنَا الْجَسَّاسَةُ ! قُلْنَا : وَمَا الْجَسَّاسَةُ ؟ قَالَتِ : اعْمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا ، وَفَزِعْنَا مِنْهَا ، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً.
فَقَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ .
قُلْنَا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟
قَالَ : أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ ؟
قُلْنَا لَهُ : نَعَمْ .
قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ .
قُلْنَا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟
قَالَ : هَلْ فِيهَا مَاءٌ ؟
قَالُوا : هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ .
قَالَ : أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ .
قَالُوا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟
قَالَ : هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ ؟
قُلْنَا لَهُ : نَعَمْ هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ ؟
قَالُوا : قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ .
قَالَ : أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ ؟
قُلْنَا : نَعَمْ .
قَالَ : كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ ؟
فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ .
قَالَ لَهُمْ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ !
قُلْنَا : نَعَمْ .
قَالَ : أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي ، إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ، فَأَخْرُجَ ، فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ ، فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا ، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا ، اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، يَصُدُّنِي عَنْهَا ، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا .
قَالَتْ – أي فاطمة رواية الحديث - :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r - وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ - : هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ هَذِهِ طَيْبَةُ يَعْنِي الْمَدِينَةَ .
أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ ؟
فَقَالَ النَّاسُ : نَعَمْ .
قال رسول الله r : فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ .
أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ . { ([27])
شرح الغريب :
أرفئوا : التجئوا
أقرُب : جمع قارب ، وهي السفن الصغيرة تكون مع الكبيرة ، يستخدمها البحارة لقضاء حوائجهم .
أهلب : غليظ الشعر كثيره فرقنا : خفنا
الجساسة :من جس الخبر إذا تتبعه ،قيل سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال .
صلتاً : مسلولاً . اغتلم : هاج وجاوز حده المعتاد
/ - عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ : قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ r : } أَنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ فَتَاهَتْ بِهِ سَفِينَتُهُ فَسَقَطَ إِلَى جَزِيرَةٍ فَخَرَجَ إِلَيْهَا يَلْتَمِسُ الْمَاءَ فَلَقِيَ إِنْسَانًا يَجُرُّ شَعَرَهُ ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ : ثُمَّ قَالَ - أي الدجال - : أَمَا إِنَّهُ لَوْ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ قَدْ وَطِئْتُ الْبِلَادَ كُلَّهَا غَيْرَ طَيْبَةَ . فَأَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ r إِلَى النَّاسِ فَحَدَّثَهُمْ قَالَ : هَذِهِ طَيْبَةُ وَذَاكَ الدَّجَّالُ . { ([28])
/ - وفي رواية الترمذي عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَضَحِكَ فَقَالَ } إِنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ حَدَّثَنِي بِحَدِيثٍ فَفَرِحْتُ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ .
حَدَّثَنِي أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَكِبُوا سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ ، فَجَالَتْ بِهِمْ حَتَّى قَذَفَتْهُمْ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ ، فَإِذَا هُمْ بِدَابَّةٍ لَبَّاسَةٍ نَاشِرَةٍ شَعْرَهَا .
فَقَالُوا مَا أَنْتِ ؟
قَالَتْ : أَنَا الْجَسَّاسَةُ .
قَالُوا: فَأَخْبِرِينَا .
قَالَتْ : لَا أُخْبِرُكُمْ وَلَا أَسْتَخْبِرُكُمْ ، وَلَكِنِ ائْتُوا أَقْصَى الْقَرْيَةِ فَإِنَّ ثَمَّ مَنْ يُخْبِرُكُمْ وَيَسْتَخْبِرُكُمْ ، فَأَتَيْنَا أَقْصَى الْقَرْيَةِ ، فَإِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ بِسِلْسِلَةٍ
فَقَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ
قُلْنَا : مَلْأَى تَدْفُقُ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنِ الْبُحَيْرَةِ .
قُلْنَا مَلْأَى تَدْفُقُ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ الَّذِي بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ هَلْ أَطْعَمَ ؟
قُلْنَا : نَعَمْ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنِ النَّبِيِّ هَلْ بُعِثَ ؟
قُلْنَا : نَعَمْ .
قَالَ : أَخْبِرُونِي كَيْفَ النَّاسُ إِلَيْهِ ؟
قُلْنَا : سِرَاعٌ .
قَالَ : فَنَزَّى نَزْوَةً حَتَّى كَادَ .
قُلْنَا : فَمَا أَنْتَ ؟
قَالَ : أَنَا الدَّجَّالُ .
قال رسول الله r : وَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْأَمْصَارَ كُلَّهَا إِلَّا طَيْبَةَ وَطَيْبَةُ الْمَدِينَةُ . { ([29])
شرح الغريب :
لباسة : كثيرة اللباس ، وكنى بكثرة لباسها عن كثرة شعرها
فنزى نزوة حتى كاد : أي وثب وثبة حتى كاد أن يتخلص من وثاقه .
/ - وفي رواية أبي داود قال رسول الله r : } إِنَّهُ حَبَسَنِي حَدِيثٌ كَانَ يُحَدِّثُنِيهِ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ عَنْ رَجُلٍ كَانَ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَجُرُّ شَعْرَهَا …حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وَثَاقًا مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ { ([30])
خلاصة القول فيما ورد في قصة تميم والجساسة
أولاً : قصة تميم ، وظاهرة ابن صياد .
حديث تميم بن أوس الداري هو الذي غير أنظار العلماء عن اعتبار ابن صائد هو
الدجال ؛ حيث قال ابن حجر في استبعاد كون ابن صياد الدجال : » وإلا فالجمع بينهم بعيد _ أي قصة تميم واعتبار أن ابن صياد الدجال - إذ كيف يلتئم أن يكون من كان أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم _ أي ابن صياد – ويجتمع به النبي r ويسأله أن يكون في آخرها شيخاً مسجوناً في جزيرة من جزائر البحر موثقاً بالحديد يستفهم عن خبر النبي r . « ([31])
كلام ابن حجر السابق صريح في أنه يعتبر الدجال الأكبر غير ابن صياد ؛ إلا أنه عاد بعدما ذكر أثراً عن البعض أنه رأى ابن صياد في أصبهان فقال : » و أقرب ما يجمع به بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال . أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقاً ، وأن ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجئ المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها ، ولشدة التباس الأمر سلك البخاري مسلك الترجيح فاقتصر على حديث جابر عن ابن عمر في ابن صياد ، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم . « ([32])
كلام ابن حجر يقرب إلى الأفهام تصور ظاهرة الدجال وعلاقتها بابن صياد ، و هي ظاهرة غامضة التبس أمرها على أكثر العلماء ؛ لدرجة أن البخاري لم يجد مسلكاً للخروج من الالتباس إلا بطريق الترجيح ، إلا أنه في ظني أن سبب التباس الأمر على كثير من العلماء في التوفيق بين الأمرين مرجعه إلى أنهم تعاملوا مع ظاهرة الدجال على أنها ظاهرة إنسية محضة ، مع أن دلائل الأحاديث تشير إلى خلاف ذلك ، ومن هذا الوجه يشكل الجمع بين الأحاديث ؛ أما لو تعاملوا مع الأحاديث على أن ظاهرة الدجال ظاهرة خاصة شبيهة بالظاهرة الإبليسية ، وهي مخالفة لعادات البشر ونواميسهم ، ففي مثل هذه الحالة لا يقع اللبس ويسهل الجمع بينها ، وهذا المعنى هو ما سأذكره في الملاحظة الثانية
ثانياً : حقيقة ظاهرة الدجال :
يلحظ من سياق حديث تميم ، وغيره من الأحاديث أننا أمام ظاهرة أقرب إلى الإبليسية منها إلى الظاهرة الإنسية ، وهذا واضح من السياق فالدجال هنا شيخ كبير مقيد في جزيرة ، وهو يخرج في آخر الزمان شاباً قططاً ، وميلاده مجهول، و عمره مجهول ، وقدراته خاصة وخارجة عن قدرات البشر (_ ) ، و أسئلته عجيبة ، و مساعده أعجب وهو الجساسة ، فكل هذه العلامات تشير إلى أننا لسنا أمام ظاهرة بشرية ، إنما نحن مع ظاهرة أقرب إلى الجن والشياطين ، و قد نقل نعيم بن حماد عن جبير بن نفير ، وشريح بن يزيد والمقدام بن معدى كرب وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة أنهم قالوا عن الدجال : » ليس الدجال إنسانا،إنما هو شيطان في بعض جزائر اليمن،لا يُعلم من أوثقه.« ([33])
وقال ابن حجر بعد ذكره للأثر الذي أورده نعيم : » ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب . « ([34])
فهذا القول المنقول عن خمسة من الثقات يعزز القول بأننا أمام ظاهرة جديدة أشبه بالظاهرة الإبليسية من بعض الوجوه ، والأحاديث الأخرى تعزز ذلك ، و كذلك ورد أن بعض أتباع الدجال من الشياطين مما يوحي أن له قدرة على التخاطب معهم بطريقة مباشرة ، ولعل الدجال عنده قدرة تقمصية أو تشكلية كإبليس الذي جاء لقريش على شكل شيخ نجدي ، و ثبت مجيئه على هيئات عدة ؛ إلا أن مخالفته للظاهرة الإبليسية تتمثل في أن جسم الدجال يكون كثيفاً مرئياً في الغالب من أمره وذلك بخلاف إبليس .
وإذا اعتبرنا ذلك فيكون الجسد بالنسبة للدجال كالثوب إلى أن يخرج خرجته الأخيرة ، عندها يثبت على الهيئة التي وصفها رسول الله r .
وعلى هذا التأويل يسهل علينا تصور المراد بمجموع الأحاديث التي تكلمت عن الدجال وحتى عن ابن صياد الذي يحتمل معه أمرين :
الأمر الأول :
إنه حالة شيطانية كما ذكر ابن حجر قدرها الله سبحانه وتعالى في زمن النبوة ليستعلم عن خبر رسول الله سبحانه وتعالى ، وهي أشبه بالحالة الدجالية ؛ حيث اختفى إلى أن يأتي مناصراً للدجال أو أحد مستشاريه ، وهذا الرأي أراه ضعيفاً لكن النصوص تحتمله .
الأمر الثاني :
إن رحلة الدجال الأكبر ابتدأت بميلاد ابن صياد ؛ وهذا الجانب البشري فيه ، وكان ميلاده مع بداية الرسالة التي سيخرج في آخر الزمان ليغويها ؛ أي كان ابن صياد كالثوب بالنسبة للدجال ، ويحتمل أن ملابسة الدجال لابن صياد كانت في أوقات مخصوصة ليكون قريباً من نبي الأمة التي سيخرج لإغوائها وفتنها آخر الزمان ، وذلك ليتعرف على تعاليمها عن قرب ، فهو بذلك يكون أقدر على معرفة ما يفتنها .
أما دجال الجزيرة الذي رآه تميم فهو حالة شيطانية صرفة جاءت لتحكي حال الدجال وإرهاصات خروجه بشكل حسي ، وهذا واضح من خلال طبيعة الجساسة ، ويحتمل أن يكون الدجال في ذلك الوقت قد تقمص تلك الشخصية للدلالة على إرهاصات خروجه وجاء على هيئة شيخ كبير ، وفي آخر الزمان حين يخرج يأتي على هيئة شاب قطط .
والملاحظ أن النبي قد استخدم أسلوباً عجيباً في إقراره لقصة تميم حيث قال « فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ » « إِنَّهُ حَبَسَنِي حَدِيثٌ كَانَ يُحَدِّثُنِيهِ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ عَنْ رَجُلٍ كَانَ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ » .
فهذه الصيغ لا تؤكد أنه الدجال ، إنما تؤكد على موافقة الكلام فقط من بعض الوجوه ، وصحيح أنه وردت إشارة في أحد الأحاديث تدل على أن النبي r قد صرح بأن الرجل الذي في الجزيرة هو الدجال ، وهذا أيضاً يقرب لنا ما ذكرنا من أننا أمام حالة غريبة لا نقيسها وفق تصوراتنا للبشر ، فالدجال الذي في الجزيرة شيخ كبير ، وعندما يخرج آخر الزمان يكون شاباً وهناك إشارات قوية من كبار الصحابة تعزز كون ابن صياد هو الدجال ، فهذه أحوال غير مستقرة للدجال تحصلت قبل خروجه لتكون عوناً له في فتنته .
وعلى القول الثاني يسهل علينا فهم عدة أمور :
وصف النبي r لميلاد الدجال وصفة والديه هو على حقيقته ، ويراد به ابن صياد ، فهو الميلاد الأولي للدجال .
توقف النبي r في الفصل بشأن ابن صياد في بداية الأمر و إشفاقه لحين موته من ابن صياد ، واختيار آية الدخان التي لها علاقة بالدجال الأكبر كخبيئة امتحن فيها ابن صياد يعزز فكرة كون ابن صياد هو الدجال الأكبر ، ويشير إلى أن النبي تحصل لديه من عدة قرائن ما يؤكد على ذلك .
قَسَمُ بعض الصحابة المقربين من رسول الله r على أن ابن صياد هو الدجال أيضاً على حقيقته ، ولا يتصور منهم إلا حال تأكدهم من ذلك .
جزم عمر و أبي ذر وابن مسعود وابن عمر وجابر وحفصة رضي الله عنهم بأن ابن صياد هو الدجال فيه إشارة إلى أن لديهم بعض الدلائل الخاصة القوية التي تحصلت عندهم من رسول الله تؤكد على أنه الدجال .
نفور عين ابن صياد دون شعور منه وانتفاخه وإخباره بمغيبات كلها تعزز كونه الدجال الأكبر ، وهذه بداية إرهاصاته ، وتطور قدراته .
إصرار جابر t على أن ابن صياد هو الدجال حتى لو مات أو أسلم فيه إشارة إلى أنه فهم أنه أمام ظاهرة مغايرة للبشر لها خصائصها التي تتميز بها ، وفيه تأكيد على أن العلم الذي تحصل لديه عن ابن صياد بلغ درجة العلم القطعي الذي لا يحتمل غيره .
حصول قصة تميم ، وتقمص الدجال لهيئة الشيخ الكبير فيها إنما جاءت بقدر الله لتوجيه أنظار عموم الصحابة عن ابن صياد ، وعدم ملاحقته أو الافتتان به في غير زمانه ؛ أما إسلام ابن صياد ودخوله المدينة فليس فيه دلالة على أنه ليس الدجال كما صرح ابن حجر لأن النبي r قال أنه لا يدخل المدينة في زمان فتنته ، وكذلك لا يتزوج في تلك المرحلة بالذات .
إذا الروح الدجالية حلت في جسد ابن صياد من ميلاده لتكون قريبة من فهم طبيعة الرسالة التي ستغوي أفرادها في آخر الزمان ، وهذه الروح أيضاً حلت في جسد الشيخ الكبير الموثق في الجزيرة ، وهي التي تحل أو تتشكل على هيئة شاب قطط في آخر الزمان عند بداية الفتنة .
ووفق ما ذكرت أقول : قسم عمر وجابر وأبي ذر وابن مسعود على أن ابن صياد هو الدجال في محله وجزم كبار الصحابة بذلك صحيح ، والقول بأن الشيخ الموثق في الجزيرة هو الدجال الأكبر أيضاً صحيح ، ولا تعارض بين هذه الأقوال كلها لأننا أمام ظاهرة مخالفة للبشر ، ومن الخطأ قياسها وفق عقولنا ونواميسنا . فنحن لسنا أمام ظاهرة إنسية لنقيس عليها بل نحن أمام ظاهرة خاصة خارقة قدرها الله سبحانه وتعالى لتمثل حلقة من حلقات صراع الحق والباطل في آخر الزمان .
وهذا أقرب وجه للجمع بين كل الأدلة وتصورها دون أي اضـطراب في الفهم .
وقد يشكل هذا الاستنتاج على البعض فيقول ، لو كان الدجال الذي في الجزيرة هو بعينه الذي في المدينة ، فلم سأل تميم عن خبر رسول الله r .
وللإجابة على ذلك أقول : إن استخبار الدجال عن محمد r لا يدل على أنه لا يعلم خبره ، بل لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى لبيان بعض العلامات ، وذلك يقال عن بقية أسئلته ، حيث كان يختمها بقوله يوشك أن يحصل كذا أو كذا ، مما يشير أنه يعلم خبرها .
محصلة هذا الجمع :
أقول : أعان الله هذه الأمة في آخر الزمان فإن قائد أعظم فتنة في الأرض والتي حذر منها كل الأنبياء كانت من حظ هذه الأمة ، وهذا القائد - بقدر الله – قد نبت في العاصمة الأولى لهذه الأمة وفي عهد نبيها ؛ وهذا يضيف له قدرة خاصة وخبرة متميزة في الإغواء لأنه تعرف عن قرب على معالم رسالة الحق كاملة ، وبالتالي يكون خبيراً في كل الجوانب المخلة بتلك التعاليم . (_ )
ثالثاً : جزيــرة الدجــال .
هذا العنوان لم أرغب في طرحه ؛ لأنه لا فائدة منه ترجى ؛ إلا أنني وجدت في طرحه حكمة دل عليها حديث رسول الله r رأيت أن أبينها .
فالمعلوم أن لخم وجذام [ قبائل تميم ومن معه ] في منطقة قريبة من البحر الأبيض ومن البحر الأحمر ، وهم أقرب إلى البحر الأحمر ، ودلالات الحال تشير إلى أن البحر الذي قصدوه هو البحر الأحمر إما من جهة خليج العقبة أو غيره ، والحديث يشير إلى أن سفينتهم لعب بها البحر شهراً ؛ أي تاهت في البحر شهراً ، وهذه المدة وفق الإمكانات القديمة تعطينا تصوراً إلى أقصى مدى يمكن أن تكون السفينة قد وصلته حال تلاعب البحر فيها ، وهو إما خليج عدن أو قبله بقليل ، أو تعدوه قليلاً في بحر العرب، والمعلوم أن ما قبل خليج عدن مئات بل آلاف من الجزر، مما يشير أن المقصود أحدها .
ويعزز ذلك أن اليمن نفسها دخلتها النصرانية ، والجساسة وصفت المكان الذي فيه الدجال بأنه الدير ، والمعلوم أن الدير من معابد النصارى في الغالب ، وتميم كان نصرانياً ، ولم ينكر هذا القول من الجساسة .
ويعزز ذلك أيضاً أن النبي r قال : } .. أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ . { ([35])
فالنبي الكريم حدد على وجه الإبهام بحرين يتوقع كون الدجال فيهما وهما بحر الشام وبحر اليمن ، ثم عدل عن ذلك وأكد أنه من قبل المشرق ، ولم يأت على ذكر بحر ؛ أي لم يقل بحر من قبل المشرق ، وفي هذا لطيفة عجيبة ، وهي وجه الحكمة من كلام النبي r -في ظني – وبيانها في التالي :
النبي r يعلم أنه لا فائدة من تعيين جزيرة الدجال أو البحث عنها ؛ فهو ظاهرة خاصة هي جزء من قدر الله سبحانه وتعالى ، وهي لا محالة واقعة ؛ لذا وافق سياق قصة تميم بالحديث عن بحرين مع أنه يسهل عليه تحديد البحر المقصود من خلال سؤال تميم عن أي بحر ركب ، ثم عدل عن ذلك بسرعة للحديث عن مكان خروج الدجال من ناحية المشرق،وقال : بل من قبل المشرق .
والحكمة من ذلك صرف أذهان المسلمين من ملاحقة الأمر في تتبع جزيرة الدجال أو الانشغال فيما لا ينفع ، ويكفي من سياق الحديث أن يعيشوا مع دليل من دلائل النبوة وهو موافقة كلام تميم لما أخبرهم به النبي r .
لذا سارع النبي r بالتأكيد على جهة الشرق دون ذكر بحر ، للإشارة إلى مكان خروجه ، فهذا الذي يعني المسلمين ، وليس المراد من ذلك كما يفهم البعض من أن النبي r قد تحير في مكانه ، بل المقصود من ذلك صرف أذهان الناس عما يشغلهم أو يفتنهم دون جدوى ، وهذا من حكمة النبي r،وهي حكمة أجدر بكل داعي أن ينتبه لها ، فلا يشغل الناس حوله بما لا فائدة منه .
رابعاً : مثلثا برمودا و فرموزا (_ ) وجزيرة الدجال .
بينت في الفقرة السابقة وجه الحكمة في عدم تعيين النبي r لجزيرة الدجال ، ونلحظ في عصرنا أن عدداً من المؤلفين قد تناولوا هذا الموضوع وتأولوه بطريقة متعسفة لا تمت للنقل أو العقل بصلة ، بل هي شطحات يراد بها الإثارة ولفت الانتباه ؛ حيث زعم محمد عيسى داود أن جزيرة الدجال هي إحدى جزر مثلث برمودا في المحيط الأطلسي بالقرب من الجنوب الشرقي لأمريكيا الشمالية ، وعزا بعض الظواهر الغريبة التي وقعت بالقرب من تلك المنطقة لقدرات الدجال ، ويزعم محمد داود أن الدجال وحكومته الخفية هناك تتحكم في العالم المعاصر ، وأنه يتنقل في عالمنا من خلال الأطباق الطائرة . ([36])
ولاحقه في ذلك منصور عبد الحكيم ، لكنه يزعم أن جزيرة الدجال هي في مثلث فرموزا في المحيط الهادي بالقرب من الصين ، ويزعم أنه حقق بذلك سبقاً علمياً لم يسبقه إليه أحد ، أما جزيرة برمودا في المحيط الأطلسي ففيها عرش إبليس ، واعتبر هذا الفهم من باب الاجتهاد والفتوحات الربانية ، والغريب أن أول ما سطر هذان الرجلان شطحاتهما كان في كتب لهما تتعلق بحوارات مع الجن ، فمحمد عيسى داود ذكر ذلك في كتابه : حوار صحفي مع الجني المسلم ، ومنصور عبد الحكيم ذكر ذلك في كتابه : مواجهة الجن ، واعتبر ما وصل إليه فتحاً ربانياً . ([37]) فهل هو فتح رباني أم تلبيس شيطاني من خلال شياطين الجن .
وقد سار في فلك هذين المؤلفين عدد آخر من الكتاب منهم : محمد عزت عارف في كتابه : سكان تحت الأرض ، وهشام كمال عبد الحميد في كتابه : اقترب خروج المسيح الدجال . ([38])
وخلاصة القول : هذه تأويلات متعسفة لا تستند إلى دليل علمي أو عقلي ، بل العقل والنقل يأبى مثل هذه الشطحات ، فالمعلوم من نص حديث تميم أنه صريح بأنه لعب بهم الموج شهراً حتى أرفئوا إلى جزيرة عند غروب الشمس ، فهل يعقل أن البحر قد حملهم خلال شهر واحد إلى الخروج من البحر الأحمر من شماله إلى جنوبه ثم سار بهم عبر المحيط الهندي حتى عبروا المحيط الأطلسي من جهة جنوب أفريقيا ، ثم ساروا إلى الشمال الغربي حتى كادوا يصلون فلوريدا أو شواطئ أمريكيا الشمالية ، فهذا المسافة تعجز السفن المعاصرة بإمكاناتها الهائلة بلوغها في هذه المدة ، فكيف بسفينة صغيرة شراعية ذات إمكانات محدودة جداً لعب بها الموج وتسير في البحر دون هدف ، وعلى فرض حصول ذلك كيف تم لهم العودة إلى جزيرة العرب بعد ذلك ، وبأي قدرة علمية استطاعوا تحديد مسار رحلة العودة ، وما يقال عن مثلث برمودا يقال على مثلث فرموزا ، فما يذكره هؤلاء المؤلفون هو من تلبيس إبليس بهم ، ويدخل في باب اتخاذ آيات هزواً ، وذلك من خلال إخضاع نصوص الوحي أو نصوص السنة لمثل هذه الشطحات بغرض الإثارة وتسويق المؤلفات ، ولا أعلم كيف تم نسج هذه الفكرة السقيمة العارية عن أي دليل علمي يؤيدها .
فغاية ما يحتمله حديث تميم هو أن الموج قد لعب بهم شهراً في حدود البحر الأحمر أو البحر العربي أو في حدود قريبة في البحر الأبيض ، وقد رجحت أن الرحلة كانت في البحر الأحمر ، وبعدما انتهى لقاؤهم بالدجال ركبوا سفينتهم في بحر يعرفونه ويعرفون طريق العودة خلاله ، ولم يذكر تميم أنهم وجدوا عناءً في الرجوع إلى موطنهم مما يشير صراحة إلى أنهم كانوا في مناطق يعرفون معالمها ويعرفون طريق العودة من خلالها ، وهذا لا يتأتى بتلك الشطحات التي ينسجها بعض مؤلفي كتب الفتن والملاحم المعاصرين .
خامساً : طلب الهداية سبب في حصولها ولو بعكس الأسباب :
/ - قال الله سبحانه وتعالى: }وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ { ([39])
/ - وقال سبحانه وتعالى : } قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ { ([40])
أحياناً يحار الإنسان في زمن الفتن ، وتتضارب الآراء الكثيرة التي يختلط فيها الحابل بالنابل ، وتختلف الموازين في الحكم على الأمور ، ويقول أين المخرج ، وكيف السبيل إلى الهداية المنجية ؟
أقول : في قصة تميم توجيها لنا إلى أعظم سبب من أسباب الهداية ، وهو طلبها بصدق والاستعداد لمقتضيات هذا الطلب و مستلزماته ؛ فإذا وجد طلب الهداية في قلب الإنسان بحق مع الاستعداد له فإنه ستيسر له الهداية المنجية ، ولو بعكس الأسباب ، وسيكون على برهان من ربه ونور ، و لو كان الواقع حوله كله بخلاف ذلك .
وهذا الأمر نتعلمه من قصة إسلام سلمان الفارسي t ، الذي كان سادناً من سدنة النار التي تعبد من دون الله ؛ أي كان في أبعد الأماكن عن الحق ، لكن عندما توفر عنده طلب الهداية وسعى لها ، كان من أهلها حتى أصبح كما قال النبي r : سلمان منا آل البيت .
وتميم الداري t كان عنده طلب لمعرفة الحق و استعداد للسعي للهداية وسياق قصته إلى أن أسلم يدل على ذلك ؛ لذا كان صاحب أكبر فتنة على وجه الأرض سبباً في توجيهه للذهاب للنبي r ؛ أي كان الدجال سبباً لهدايته ، وهذا بعكس الأسباب ؛ إذ الأصل أن الدجال سبب في صرف الناس عن الهداية .
وعليه يمكن القول أن قصة الجساسة كانت سبباً لأمرين :
الأول : تعزيز الإيمان وتأكيد الهداية عند الصحابة الكرام ؛ حيث عايشوا دليلاً من دلائل نبوة محمد r يرويه أحد النصارى الذي جاء ليعلن إسلامه بعد معاينته لهذا الدليل .
الثاني : الاستعداد القبلي للإيمان عند تميم t ، وطلبه الهداية كان سبباً في تهيئة الأسباب الربانية له لحصول الهداية في حقه ، و توفير الأسباب الممهدة لذلك والمخالفة للحس والعقل ، وبما يتوافق مع عقليته ، فتميم عنده الاستعداد للهداية ، وسمع بالنبي r ، ولكنه لم ينتبه للأمر لبعد المسافة بينه وبين المدينة من ناحية ، ولعدم معاينته لدلائل معززة للإيمان لسطحية الأخبار الواردة له والمدللة على صدق نبوة محمد r .
لكن هذا الاستعداد القبلي عند تميم كان سبباً في تهيئة الظروف الممهدة للهداية في حقه ، والتي كانت عبارة عن قصة عجيبة مبدؤها التيه ومعاينة الموت في البحر ، ثم الالتقاء بالدجال ، ثم حديث الدجال معهم ، ثم تقدير الله سبحانه وتعالى في أن يجري على لسان الدجال ما كان سبباً في هداية تميم t ، منه قول الدجال في حق النبي r : » أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ « ، فهذه كلمات حق جرت على لسان صاحب أكبر فتنة على وجه الأرض ، وكانت سبباً في هداية تميم وحرصه في طلب المدينة والالتقاء بالنبي الكريم .
وهذه عبرة عظيمة لكل مسلم في زمن الفتن ، فلا يظنن المسلم أن الفتن سبباً في وأد الهداية ، وإن كانت سبباً في تمييز المحق من المبطل ، وبين أهل الحق وأدعيائه ، واعلم أنه إذا تواجد طلب حقيقي للهداية في داخلك وأسباب حصولها المكملة ، فإن عواصف الفتن الماحقة ستكون في حقك نسيماً عليلاً ، كما كانت الريح الصرصر العقيم على قوم عاد نسيماً عليلاً على هود عليه السلام وأتباعه ، واعلم أن الفتن أمرها بيد الله ، وشخوصها جزء من خلق الله ، وكلا الأمرين لا يملكان شيئاً } أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ { ([41])
وقد ثبت في السنن أن صاحب طلب الهداية الحقيقي يخرج من الفتن بقلب أبيض لا تشوبه شائبة ، وكأن الفتن كانت سبباً في تخلية هذا القلب من الشوائب كما كان صاحب أعظم فتنة في الأرض سبباً في هداية تميم t .
سادساً : الجساسة .
نلحظ من أحاديث تميم أن قصته اقترنت بما يعرف بالجساسة ، وقد اختلفت العبارات الدالة عليها في مجموع الأحاديث السابقة ، ولكي يتضح المراد بها أذكر هنا هذه العبارات ثم أعقب عليها :
فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ .
قَالَتْ : أَنَا الْجَسَّاسَةُ .
- لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً .
- فَلَقِيَ إِنْسَانًا يَجُرُّ شَعَرَهُ
- فَإِذَا هُمْ بِدَابَّةٍ لَبَّاسَةٍ – أي كثيرة الشعر - نَاشِرَةٍ شَعْرَهَا .
فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَجُرُّ شَعْرَهَا .
هذه أبرز العبارات الدالة على الجساسة ، ويلحظ في الأحاديث أنها هي التي أعلمتهم باسمها هذا ، والاسم له علاقة بوصف يبين طبيعة وظيفة هذه الدابة ، وهو تتبع الأخبار لصالح الدجال ، وقولها أنها الجساسة فيه دلالة أنها مؤنث ، وإلا لقالت أنا الجساس ، ويأتي تساؤل هنا : ما هي الجساسة ؟
دلائل العبارات تشير إلى أن تميماً ومن معه تحيروا في توصيف الجساسة ، فبالنظر إلى شعرها الكثيف الذي يُغيِّب معالم جسمها بحيث لا يعرف لها قُبُل من دُبُر جاء التعبير عنها بأنها دابة ، وبالنظر إلى حديثها معهم جاء التعبير عنها بأنها إنسان ، وبالنظر إلى صوتها ، و صيغ التأنيث في حديثهم معها وفي طبيعة اسمها جاء التعبير عنها بأنها امرأة ، وبالنظر إلى دلائل حالها المخالفة للبشر ، و تسميتها لرجل ينتظرهم في الدير جاء التعبير بالخوف من كونها شيطانة .
ولا أعلم ما وجه الربط بين كون تسميتها لرجل في الدير وبين الخوف من كونها شيطانة ، » لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً .« فصيغة العبارة شرطية ؛ أي أن الخوف من كونها شيطانة شرط مترتب على تسميتها لرجل ، وفي ظني تسميتها لرجل وهو الدجال ، وانتظاره لهم بالأشواق ، وما رافق ذلك من سياق حديثهم معها وملابساته أشعرهم أنها تملك قدرات تفوق الوضع الطبيعي للبشر ، فجاء الخوف من كونها شيطانة .
هذا مجمل الحديث عن الجساسة ، يتحصل منه القول أنها ظاهرة خاصة قد تكون من فصيل الجن ، ويبعد كونها من البشر ، وإن كان بعض ملامحها يشير إلى ذلك ؛ إلا أنه لا يؤكد عليه .
القسم الثاني : دراسة تفصيلية لظاهرة الدجال
وهذا القسم أتناوله في المباحث التالية :
المبحث الأول
خطورة فتنة الدجال وتعوذ النبي r منها
هذا المبحث يبرز مدى خطورة هذه الفتنة وعظمتها وإنذار النبي r لأمته منها ، وكذلك يوضح منهج النبي r في التعوذ من هذه الفتنة ،وذلك في المطالب الثلاثة التالية .
المطلب الأول : فتنة الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض
/ - عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ : } مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ . { ([42])
/ - عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ : } لَأَنَا لَفِتْنَةُ بَعْضِكُمْ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، وَلَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِمَّا قَبْلَهَا إِلَّا نَجَا مِنْهَا ، وَمَا صُنِعَتْ فِتْنَةٌ مُنْذُ كَانَتِ الدُّنْيَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ إِلَّا لِفِتْنَةِ الدَّجَّالِ . { ([43])
أقول :
الأحاديث السابقة صريحة في عظم فتنة الدجال ، وكأن هذه الفتنة إشارة إلى نهاية الدنيا ؛ حيث تشبه الاختبار النهائي لأهل الأرض في زمان خروجه .
الحديث الثاني فيه إشارة مهمة إلى أن فتنة الدجال تأتي بعد فتن عدة ، وقد صرحت بعض الأحاديث أن آخرها فتنة الدهيماء ، وهذه الفتن تكون قد غربلت الناس فظهر مؤمنهم من منافقهم ، فما يكون من فتنة الدجال إلا حصد ما خلفته الفتن التي سبقته ، وفي هذا إشارة إلى ضرورة انتباه المؤمن من الفتن ، ولا يستصغرها ، أو يحقر شأنها ، فهي موطئة لفتنة الدجال ، يعزز ذلك ما جاء في الحديث : « لَأَنَا لَفِتْنَةُ بَعْضِكُمْ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ » ، وفي رواية مسلم : غير الدجال أخوفني عليكم . وفي رواية أحمد : « لَغَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَى أُمَّتِي ، قَالَهَا ثَلَاثًا : قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا الَّذِي غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُكَ عَلَى أُمَّتِكَ قَالَ أَئِمَّةً مُضِلِّينَ . » ([44])
و عن حذيفة بن أسيد t قال : » … إنا لغير الدجال أخوف علي وعليكم قال فقلنا ما هو يا أبا سريحة ؟ قال فتن كأنها قطع الليل المظلم قال : فقلنا : أي الناس فيها شر ؟ قال : كل خطيب مصقع وكل راكب موضع . قال فقلنا : أي الناس فيها خير قال : كل غني خفي قال أبو الطفيل الليثي : فقلت : ما أنا بالغني ولا بالخفي ؟ قال فكن كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب . « ([45])
شرح الغريب :
خطيب مصقع : أي كل خطيب بليغ اللسان ، ويراد به الخطباء الذين يغيرون الحقائق ويزينون الباطل لأهوائهم أو لمصالح قادة الفتن مستعينين بما أوتوا من قوة بلاغة و تأثير في الناس .
راكب موضع : أي مسرع ، ويراد به من يخف ويسرع في الفتن ونصرة أهل الباطل .
غني خفي : أي كل غني النفس معتزل للناس
ابن لبون : ابن الناقة ذات اللبن ، وابن اللبون يكون صغيراً لا يمكن أن يركب لقتال ونحوه ، ولا يمكن أن يحلب فينتفع به ؛ لأنه صغير ، ومعنى كن كابن لبون : أي مثله في عدم الانتفاع به في أمر من أمور الفتن .
المطلب الثاني : إنذار النبي r لأمته من فتنة المسيح الدجال .
/ - عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ r فِي النَّاسِ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ : } إِنِّي لَأُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ ، وَلَكِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ ، إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ . { ([46])
/ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : كُنَّا نَتَحَدَّثُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّبِيُّ r بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَلَا نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِ وَقَالَ : } مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ أَنْذَرَهُ نُوحٌ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِيكُمْ فَمَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عَلَى مَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ ثَلَاثًا إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّهُ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ . { ([47]) وفي رواية مسلم } كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِئَةٌ . { ([48])
أقول :
هذان الحديثان يدلان على خطورة فتنة الدجال ، فما من نبي من لدن نوح عليه السلام إلا أنذر أمته منه ، والسؤال الذي يطرح هنا : ما وجه إنذار نوح عليه السلام لأمته من الدجال بالرغم من أنه يخرج في آخر الزمان ؟
وهذا يجاب عنه بأن وقت خروجه كان خفياً على نوح عليه السلام ؛ أي أن نوحاً علم بفتنة الدجال ولم يعلم بوقت خروجه فأنذر أمته وكذلك سائر الأنبياء ، وهذا يعزز أن النبي r في بداية الأمر قد علم بفتنة الدجال ثم تبين له في آخر الأمر وقت خروجه ؛ لذلك كان إنذار محمد r لأمته من الدجال أوفى وأكثر تفصيلاً من غيره لوقوع فتنته في أمته .
المعلوم أن حجة الوداع كانت في آخر عهد النبي r ، وتضمنت ملخصاً عاماً لرسالة الإسلام وأبرز تعاليمه ، ومع كونها كذلك إلا أن النبي r لم يختصر الحديث عن الدجال فيها ، بل أطنب و أفاض في الحديث عنه ، وفي هذا إشارة إلى عظم هذه الفتنة وخطورتها ، و ويتضمن تنبيهاً لأمته للإفاضة في الحديث عنها والتحذير منها .وإذا كانت خطبة الوداع التي تعتبر ملخصاً لرسالة محمد r قد تضمنت إطناباً عن فتنة الدجال ، فمن باب أولى أن يطنب أتباعه في ذكرها ،والتحذير منها ، وليس كما يدعي البعض أن ذكر الدجال وفتنه من باب الملهاة للأمة وإشغال لها عن قضاياها ، بل على العكس ذكر فتنة الدجال يقي الأمة من الوقوع فيها من جانب ، ومن جانب آخر يعطيها تصوراً لطبيعة الفتن التي نعيشها قبل خروجه ، وذلك لارتباط الفتن بفتنة الدجال ؛ لذا لا بد أن يكون بعض ما نلابسه من فتن يطابق بعض أوصاف فتنة الدجال .
المطلب الثالث : تعوذ النبي r من فتنة الدجال
/ - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : } أن النبي r كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ . { ([49])
/ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t } أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ يَدْعُو أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ . { ([50])
/ - عَنْ مُصْعَبٍ كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ وَيَذْكُرُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ r : } أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا يَعْنِي فِتْنَةَ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. { ([51])
/ - عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : } سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ . { ([52])
/ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ . { ([53])
أقول :
هذه الأحاديث برواياتها المتعددة تشير إلى أن النبي r قد جعل لفتنة الدجال نصيباً من استعاذته ، وفي هذا إشارة إلى عظم هذه الفتنة على وجه الخصوص ، وفيه إشارة إلى أن الاستجارة بالله سبحانه وتعالى من العظائم قبل وقوعها سبب في دفعها ، أو التقليل من أثرها ، والمعلوم أن الدعاء يدفع البلاء أو يخفف منه .
يلحظ من بعض الأحاديث أنها دلت على سنة نبوية من سنن الصلاة وهي الاستعادة من عظائم أربع ابتدأها النبي r بالتدريج ، وجعل أقربها من الإنسان فتنة المسيح الدجال التي يمكن أن يعيش الإنسان في غمرتها فجأة ، واختيار النبي r لذكر هذه الاستعادة في خاتمة الصلاة يتناسب مع خطر هذه العظائم الأربعة من ضمنها فتنة الدجال ، فالصلاة صلة بين العبد وربه ، والأصل فيها أن تكون سبب نجاة لصاحبها مما يستقبله من عظائم ، فبدأ بالاستعادة بأعظم الأمور وبأبعدها عن المؤمن وهي النار ثم تدرج في العظائم إلى أن انتهى إلى فتنة المسيح الدجال ، وفي ذلك دلالة واضحة على أن النجاة من هذه الأمور الأربعة فوز وفلاح لصاحبها ، وفيها أيضاً إشارة إلى أن أعظم فتن الدنيا هي فتنة المسيح الدجال ، وإلا لو كان غيرها لذكره النبي r .
/ - عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول r قال : } مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ . { ([54])
أقول :
هذا الحديث فيه إشارة واضحة إلى أن فتنة الدجال لا تعدو كونها ممحصة أو محصِّلة لما في القلوب قبل أن تأتي ؛ لذا الذي يسلم من الفتن قبلها سيسلم منها ، والذي يقع فريسة للفتن قبلها لا محالة سيكون من أهل الوقوع بها ؛ وهذا هو وجه مشابهتها لفتنة القبور ، فالمعلوم أن المؤمن إذا عرضت عليه فتنة القبر ينجو منها وإذا سئل أجاب بما فيه نجاته ، أما المنافق أو المرتاب أو من لبسته الفتن في الدنيا ، فيحرم من الإجابة . وبالتالي من لم تحصده فتنة الدجال حصدته فتنة المحيا والممات أو فتنة القبور ، والعبرة بما كان عليه الإنسان قبل وقوع هذه الفتن ، فليحذر المؤمن .
المبحث الثاني
أوصاف الدجال ، وعلامات خروجه ومنشأ فتنته وطبيعة أتباعه
المطلب الأول : مجمل أوصاف الدجال
/ - عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ r : } مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ . { ([55])وفي رواية مسلم : } مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر أَيْ كَافِرٌ . { ([56])وفي رواية أخرى : } الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ ثُمَّ تَهَجَّاهَا ك ف ر يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ . { ([57])
/ - عَنْ حُذَيْفَةَ t قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } .. وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ . { ([58])
شرح الغريب :
ظفرة : جلدة تغشى البصر ، أو لحمة تنبت عند مآقي العيون .
/ - عَنْ حُذَيْفَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى جُفَالُ الشَّعَرِ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ . { ([59])
شرح الغريب :
جفال : كثير
/ - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَـمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ . { ([60])
شرح الغريب :
أفحج : الفحج هو التباعد بين الساقين . حجراء : الغائرة
جعد : قصير متكنز الجسم ، ذو شعر خشن . ألبس : اختلط واستشكل
مطموس العين : ممسوح العين
/ - عن عَبْد اللَّهِ رضي الله عنهما قال : ذَكَرَ النَّبِيُّ r يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ : } إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ أَلَا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَنَامِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ رَجِلُ الشَّعَرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالُوا هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطِطًا أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ . { ([61])
شرح الغريب :
قطط : شديد جعودة الشعر أدم : أسمر
اللمة : ما وصل من الشعر إلى شحمة الأذن
وفي رواية : } .. ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ جَسِيمٌ أَحْمَرُ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قَالُوا هَذَا الدَّجَّالُ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ . { ([62])
شرح الغريب :
عنبة طافية : هي الحبة التي خرجت عن حد نبات أخواتها في العنقود ونتأت .
/ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } .. وَأَمَّا مَسِيحُ الضَّلَالَةِ فَإِنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ أَجْلَى الْجَبْهَةِ عَرِيضُ النَّحْرِ فِيهِ دَفَأٌ كَأَنَّهُ قَطَنُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَضُرُّنِي شَبَهُهُ قَالَ لَا أَنْتَ امْرُؤٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ امْرُؤٌ كَافِرٌ . { ([63])
شرح الغريب :
دفأ : انحناء
/ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في قصة الإسراء قَالَ : }.. وَرَأَى الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ لَيْسَ رُؤْيَا مَنَامٍ وَعِيسَى وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَات اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَسُئِلَ النَّبِيُّ r عَنِ الدَّجَّالِ فَقَالَ أَقْمَرُ هِجَانًا – وفي رواية أزهر - هِجَانًا إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ كَأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ. { ([64])
شرح الغريب :
أقمر : شديد البياض هجان : أبيض
/ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } إِنَّ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى وَعَيْنُهُ الْأُخْرَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ . { ([65])
/ - عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ t عَنِ النَّبِيِّ r : } أَنَّهُ ذَكَرَ الدَّجَّالَ عِنْدَهُ فَقَالَ عَيْنُهُ
خَضْرَاءُ كَالزُّجَاجَةِ . { ([66])
/ - عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عن رجل من أصحاب النبي r عن النَّبِيِّ r قَالَ : } إِنَّ مِنْ بَعْدِكُمُ الْكَذَّابَ الْمُضِلَّ ، وَإِنَّ رَأْسَهُ مِنْ بَعْدِهِ حُبُكٌ حُبُكٌ حُبُكٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .. { ([67])
شرح الغريب :
حبك : جعد
مجـمل أوصـاف الدجـال
اللـــون :
أزهر ؛ أي أبيض مشرب بالحمرة ، وفي بعض الأحاديث إشارة إلى شدة بياضه ( أقمر هجان ) وبعض الأحاديث أشارت إلى أنه أحمر ، واللون الأحمر يكون لشديد البياض ، والمعاني متقاربة .
الطـول :
قصير ، وإذا مشى تتباعد ساقاه ( أفحج ) ، أي هو معيب في مشيه ، مع انحناء
في أعلى جسمه ( الدفاء ) .
الجسـم :
ممتلئ مكتنز اللحم ، والصدر واسع ضخم ؛ إذا الجسم ضخم بالرغم من قصر الدجال ، وعليه يحمل قول تميم في شأن الدجال أنه أعظم إنسان ؛ أي في الضخامة .
الوجـه :
معالم وجه الدجال مشوهة للغاية ، فالعينان معيبتان : إحداها ممسوحة تماماً أو مطموسة تماما ، فلا هي بارزة ولا هي غائرة ، والعين الأخرى خارجة عن حدها بشكل قبيح كأنها حبة عنب خرجت عن عنقودها ، وهذه العين خضراء معيبة ؛ إذا للدجال عين واحدة معيبة جداً خارجة عن محجرها أما الأخرى فهي مطموسة تماماً ؛ أي لا يوجد عين ولا حاجب .
يضاف إلى ذلك هناك جلدة غليظة بارزة نبتت في مآقي عينه ، وهذا الجلدة فيها تدلي فوق العين هكذا مثل عرف الديك .
أما جبهته فواسعة ، ومكتوب بين عينيه ( كفر ) أو ( ك ف ر ) حسب تعدد الروايات ، وهذه الكتابة حقيقية ، ويلزم من ذلك أنها كالوشم أو كالوحم في اللحم وهذا أيضاً إضافة في تشوه الوجه .
أما الشعر فهو شديد الخشونة والتجعد كثير ومتفرق و قائم خلف الدجال كأنه أغصان شجر أو لفافات ملتوية وجاء في أوصاف رأس الدجال بأنها أشبه بالأصلة ، والأصلة هي الحية العظيمة ، والعرب تشبه الرأس الصغير الكثير الحركة برأس الحية . .
ويلحظ من الوصف السابق أننا أشبه ما نكون أمام سلالة مهجنة فاللون الأبيض أو الأحمر والعين الخضراء أشبه بالسلالة الأوروبية ، والشعر شديد الخشونة والتجعد أشبه بسلالة الزنوج ، و قصر القامة أشبه بسلالة وسط وشرق آسيا .
آراء العلماء في الكتابة الموجودة بين عيني الدجال :
يتضح من الأحاديث السابقة أن الدجال مكتوب بين عينيه كلمة ( كفر ) وهذه
الكلمة لا يراها أو يقرؤها إلا المؤمن ، وفي رواية كل من كره عمل الدجال وكفر به ، وهذا يصدق على المؤمن ، و سواء كان المؤمن يعرف القراءة والكتابة أم لا ، بينما يحرم من رؤيتها الكافر أو الشقي المتابع له ، فما هي حقيقة هذه الكتابة : هل هي معنوية غير ظاهرة ؟ ويؤيد ذلك أن المؤمن يقرؤها وهو لا يعرف الكتابة ، أم هي ظاهرة حقيقية في جلد الدجال ؟
يقول النووي : » الصحيح الذي عليه المحققون أن الكتابة المذكورة حقيقية جعلها الله علامة قاطعة بكذب الدجال ، فيظهر الله المؤمن عليها ، ويخفيها على من أراد شقاوته . « ([68]) ونقل عياض عن البعض أنه يرى أن الكتابة معنوية أو مجازية ، واستدل هؤلاء بما ورد بأن المسلم يقرؤها وهو لا يعرف الكتابة بينما لا يقرؤها أو يراها الكافر وهو يعرف الكتابة فدل ذلك على أن هذه الكتابة شيئاً مجازياً ليس له رسم ظاهر في جلد الدجال . وهذا المذهب ضعيف .
ويجاب على ما ذكروا بأن الكتابة حقيقية ، ولا يلزم من قول النبي r بأنه يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب أن تكون الكتابة غير حقيقية ، بل يقدر الله على غير الكاتب علم الإدراك الذي به يستبين المكتوب بين عيني الدجال بعين البصيرة ، ويحرم الكافر الإدراك في البصر لهذه الكلمة مع وجودها ، وذلك أن الإدراك بالبصر لا يكون إلا وفق المشيئة الإلهية ، والله سبحانه وتعالى يقدر ما يشاء ، وقد خرج النبي r بين ظهراني الكفار في الهجرة ، وعلى مرأى من عيونهم ، ولكن وقعت الغشاوة على عيونهم فلم يروه، وزمن الدجال زمن الخـوارق؛ لذا يخـص المؤمن بالقدرة على رؤية هذه الكلمة دون غيره ([69])
المطلب الثاني : علامات خروج الدجال
يمكن إعطاء تصور إجمالي عن علامات خروج الدجال والتي تحدد لنا أيضاً زمانه وذلك على النحو التالي :
العلامة الأولى : فتح بلاد الروم (القسطنطينية ورومية ) :
/ - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ يَعْنِي مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ . { ([70])
/ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } بَيْنَ الْمَلْحَمَةِ وَفَتْحِ الْمَدِينَةِ سِتُّ سِنِينَ وَيَخْرُجُ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ فِي السَّابِعَةِ . { ([71])
/ - عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ : } الْمَلْحَمَةُ الْعُظْمَى وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ { ([72])
شرح :
الحديث الأول يشير إلى أن المدة بين الملحمة وخروج الدجال سبع سنوات ، والحديث الثاني يشير إلى أن المدة سبعة أشهر ، والحديث الأول الذي يدل على أنها سبع سنوات أصح كما صرح أبو داود مخرج الحديث .
وحاول بعض العلماء أن يخرج من إشكال الجمع بين الحديثين – وكلامه محتمل – فقال بأن الحديث الأول يدل على أن المدة من بداية الملحمة الأولى إلى خروج الدجال سبع سنوات ، أما الحديث الثاني فدل على أن ما بين الملحمة وفتح القسطنطينية وخروج الدجال سبعة أشهر فتكون مدة الملحمة العظمى ست سنوات ، وبينها وبين فتح القسطنطينية وخروج الدجال سبعة أشهر من السنة السابعة . ([73])
وهذا الكلام مع أنه محتمل ، إلا إنني أراه بعيداً ؛ لأن دلالات أحاديث الملحمة العظمى لا تشير إلى هذه المدة الطويلة ؛ لذا أرى أن نعدل إلى الترجيح هنا بين الروايتين باعتماد أصحها سنداً وأقواها في دلالة المتن ، وأقربها للواقع وهي مدة السبع سنوات ، وإشارة أبي داود إلى أن حديث السنوات السبع أرجح فيه إشارة واضحة إلى أن هناك تعارضاً ثابتاً بين الحديثين لا يمكن دفعه إلا بالترجيح ، وذلك بتقديم الأرجح إسناداً . ([74])
/ - عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ : } سَتُقَاتِلُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ تُقَاتِلُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ، ثُمَّ تُقَاتِلُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ . { قَالَ جَابِرٌ : فَمَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ » ([75])
شرح :
الكلام هنا يحتمل أن المراد به ما وقع في العصر الأول في عهد الصحابة من قتال في جزيرة العرب والروم ، ويحتمل أن يراد به مرحلة البعث الثاني للأمة أو العالمية الثانية لها في زمن المهدي t ،والاحتمال الثاني في ظني أقوى وفي تعقيب جابر بن عبد الله t ما يؤكده ، ودلالات الأحاديث الأخرى تعززه .
/ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ : } سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ ، وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ : قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَقَ ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ ، وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ ، قَالُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا ، قَالَ ثَوْرٌ : لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ الَّذِي فِي الْبَحْرِ ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيُفَرَّجُ لَهُمْ ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ فَقَالَ : إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُونَ . { ([76])
أقول :
الحديث يشير إلى فتح مدينة القسطنطينية (_ ) – كما صرحت بذلك أحاديث أخرى - وأنها تفتح بالتكبير مما يدل على أن أهل الحق في آخر الزمان يؤيدون بنصرات غيبية ، وهذا لا يكون إلا مع طائفة من الربانيين أهل اليقين والصبر ممن أخلصوا لله ، والملاحظ من الحديث أن الذي سيفتتحها من المسلمين هم من بني إسحق .
يقول النووي : » قال القاضي ( عياض ): كذا هو في جميع أصول صحيح مسلم من بني إسحق ، قال : قال بعضهم : المعروف المحفوظ من بني إسماعيل وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه ؛ لأنه إنما أراد العرب. « ([77])
وفي رأيي أن كونهم من بني إسحق أثبت مما نقله القاضي عن البعض بأنهم من بني إسماعيل ، والغريب أن هناك طائفة ضخمة من المسلمين في خراسان تزعم أنها من بني إسحق ، فقد يكونون هم المقصودون في الحديث ، وكذلك معلوم أن أهل خراسان هم من أنصار المهدي كما دلت الأحاديث ؛ لذا قد يكون غالب هذا الجيش منهم .
/ - جاء في حديث حفصة لأخيها ابن عمر عندما تعرض لابن صياد : « أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: } :إِنَّمَا يَخْرُجُ – أي الدجال - مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا . ( ([78])
شرح :
هذا الأثر سبق أن ذكرته كاملاً مبرزاً مناسبة ذكره وهو ما حصل من ابن عمر رضي الله عنهما حينما أغضب ابن صياد وضربه ، فذكرت حفص رضي الله عنها مقولة النبي r بأن الدجال يخرج من غضبة يغضبها ، ومن تتبع سياق الأحداث التي ذكرتها في فصل المهدي علم أسباب هذه الغضبة ، والتي بدأت بالحرب التحالفية التي تم من خلالها القضاء على اليهود في فلسطين ، وهي مرحلة إساءة وجههم المذكورة في سورة الإسراء ، والمعلوم أن اليهود هم الذراع الأيمن للدجال .
ثم الملحمة العظمى التي تم فيها القضاء على شوكة النصارى وهم الذراع الأيسر للدجال ، ثم كان الهجوم على القسطنطينية ، وغزو الروم في عقر دارهم ، ففي ظل هذا الأحداث هاج غضب الدجال غضباً مؤذناً بخروجه وفق قدر الله سبحانه وتعالى ، وكأنه بركان يتململ مع الأحداث إلى أن دانت ساعة الصفر التي قدرها الله سبحانه وتعالى .
العلامة الثانية : حصول القحط .
/ - عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها قَالَتْ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ r فِي بَيْتِهِ فَقَالَ : } إِذَا كَانَ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ بِثَلَاثِ سِنِينَ حَبَسَتِ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا، وَحَبَسَتِ الْأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا ، فَإِذَا كَانَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ ، حَبَسَتِ السَّمَاءُ ثُلُثَيْ قَطْرِهَا ، وَحَبَسَتِ الْأَرْضُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا ، فَإِذَا كَانَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ حَبَسَتِ السَّمَاءُ قَطْرَهَا كُلَّهُ ، وَحَبَسَتِ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ ، فَلَا يَبْقَى ذُو خُفٍّ وَلَا ظِلْفٍ إِلَّا هَلَكَ.. { ([79])
أقول :
الحديث يشير إلى تغيرات مناخية ملحوظة على مدى ثلاث سنوات ، بما يترتب عليه المحل والمجاعة ، وهذا يتناسب مع خروج الدجال وفتنته ، وهذه المرحلة تكون فيما بين الملحمة العظمى وفتح القسطنطينية ، حيث تبدأ الإرهاصات المعززة لفتنة الدجال بالظهور بشكل تدريجي .
والمعلوم أن هذه المرحلة هي مرحلة بناء العالمية الثانية للإسلام ، ويتضح من الآثار أن عملية البناء بعد بعض الانتصارات تتمخض عن بعض الشدائد من باب الابتلاء ، وهي أشبه بمرحلة طالوت التي نال الجيش فيها جهده وبلغ فيه العطش مداه قبل أن يبلغ النهر ليكتـمل الابتلاء بالتضييق عليه بأمر رباني يحدد مستوى الشرب منه من باب الاختبار .
/ - جاء في حديث تميم وسؤال الدجال لهم حيـث قال : } .. أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ قُلْنَا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟ قَالَ : أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ : نَعَمْ ! قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ. قَالَ : أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ قُلْنَا عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ قَالَ : هَلْ فِيهَا مَاءٌ ؟ قَالُوا : هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ قَالَ أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ قَالَ أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ قَالُوا : عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ ؟ قَالَ هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ قُلْنَا : لَهُ نَعَمْ هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا . { ([80])
أقول :
هذا الحديث يشير إلى بعض علامات خروج الدجال ، وعامتها في بلاد فلسطين ، ولعل هذه العلامات لها علاقة بالجفاف الذي سيحل بالأرض حتى يستنفد ماء البحيرات كبحيرة طبرية ، ويستنفد المياه الجوفية كعين زغر ، ويؤثر على أكثر النبات تحملاً كنخل بيسان ، وذكر هذه العلامات على وجه الخصوص لتميم t ومن معه لأنهم من أهل هذه الأماكن ، والحديث الذي سبقه يشير إلى أن حالة القحط تكون عامة .
كذلك هذه العلامات يعاينها أهل الشام على وجه الخصوص ، وهم في تلك المرحلة يمثلون بيضة المسلمين ورمز قوتهم وعقر دارهم كما بينت في فصل المهدي .
العلامة الثالثة : فتنة الدهيماء .
/ - جاء في حديث الفتن العظام عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وفيه عن رسول الله r : } … ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ لَا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً ، فَإِذَا قِيلَ انْقَضَتْ تَمَادَتْ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ . { ([81])
أقول :
الحديث يشير إلى فتنة الدهيماء ، وهي الفتنة السوداء المظلمة التي تكون بين يدي خروج الدجال وعلامة من علاماته والموطئة لخروجه ، وهذه الفتنة تتميز عن غيرها من الفتن بأنها أشبه الفتن بفتنة الدجال مع فارق في الدرجة ، ولئن كان حظ فتنة الدجال في معيار الفتن هو 100% فإن حظ فتنة الدهيماء يكون 90% ؛ لذا من أراد أن يعرف حقيقة هذه الفتنة ومعالمها فليدرس فتنة الدجال وحبائله واتباعه ، فإنه سيعيش مع نفس الوصف من الدجل والتلبيس على الناس والتضييق على عباد الله ، وسيكون أتباع هذه الفتنة وأنصارها هم طليعة أتباع فتنة الدجال ، طبعاً مع مراعاة الفارق في الدرجة بين الفتنتين .
وسبق أن بينت علاقة هذه الفتنة في نهايتها بحسر الفرات عن جبل من ذهب ، وكذلك علاقتها بآية الدخان وعلاقتها بخروج المهدي ، وهذه الأحداث مترابطة ومتصلة ومتشابكة ، فراجع هذا التفصيل في مواضعه .
العلامة الرابعة : وقوع أمور عظيمة قبل خروج الدجال .
/ - عن سمرة بن جندب t عن رسول الله r في خطبته بعد كسوف الشمس ، حيث جاء فيها : } .. وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابًا آخِرُهُمْ الْأَعْوَرُ الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى ... وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى تَرَوْا أُمُورًا يَتَفَاقَمُ شَأْنُهَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَتَسَاءَلُونَ بَيْنَكُمْ هَلْ كَانَ نَبِيُّكُمْ ذَكَرَ لَكُمْ مِنْهَا ذِكْرًا وَحَتَّى تَزُولَ جِبَالٌ عَلَى مَرَاتِبِهَا .وفي رواية الحاكم وابن أبي شيبة:عن مراسيها { ([82])
شرح :
هذا الحديث سبق شرحه في آية الدخان و الحدث الكوني والشاهد فيه هنا هو أن خروج الدجال يسبقه بعض الأمور العظيمة التي تتأثر بها الأمة كلها ، بل يتحيرون متسائلين : هل هذه العظائم لها ذكر في هدي النبي r ؟ وهذا يشير إلى مدى خطورة ما سيقع والذي من بينها زوال الجبال ، وقد فصلت القول في تصوراتي لهذه العظائم في الحدث الكوني ، فراجعه ، وفي ظني أن إرهاصات هذه العظائم قد بدأت في عصرنا ، ونسأل الله السلامة .
العلامة الخامسة : اشتداد الفساد والجهل والبغضاء في الأرض .
/ - عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : « لَمَّا فُتِحَتْ إِصْطَخْرُ نَادَى مُنَادٍ أَلَا إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ
خَرَجَ قَالَ فَلَقِيَهُمُ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ قَالَ : فَقَالَ : لَوْلَا مَا تَقُولُونَ لَأَخْبَرْتُكُمْ أَنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ : } لَا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ حَتَّى يَذْهَلَ النَّاسُ عَنْ ذِكْرِهِ وَحَتَّى تَتْرُكَ الْأَئِمَّةُ ذِكْرَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ . { ([83])
/ - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي خَفْقَةٍ مِنَ الدِّينِ وَإِدْبَارٍ مِنَ الْعِلْمِ .. { ([84])
/ - عن أبي الطفيل قال : » كنت بالكوفة فقيل خرج الدجال قال فأتينا على حذيفة بن أسيد وهو يحدث فقلت : هذا الدجال قد خرج ! فقال : اجلس فجلست فأتى علي العريف فقال : هذا الدجال قد خرج وأهل الكوفة يطاعنونه ! قال : اجلس فجلست فنودي أنها كذبة صباغ . قال فقلنا : يا أبا سريحة ما أجلستنا إلا لأمر ، فحدثنا قال : إن الدجال لو خرج في زمانكم لرمته الصبيان بالخذف ولكن الدجال يخرج في بغض من الناس وخفة من الدين وسوء ذات بين .. { ([85])
شرح :
- هذه الروايات تشير إلى طبيعة المرحلة التي يخرج فيها الدجال ، وهي انتشار الجهل وضعف الوازع الديني وانتشار البغضاء بين الناس ، وذهول الناس عن ذكر الدجال حتى الأئمة يتركون ذكره على المنابر ، أي أن مرحلة خروج الدجال هي حالة مطبقة من الغفلة والجهل الممزوجة بالفرقة والبغضاء بين الناس ، وهذا التوصيف لهذه المرحلة يفضي إلى إشكال واضح وهو القول بأن هذه المرحلة بهذا التوصيف لا تتناسب والقول بأن الدجال يخرج في مرحلة المهدي t ، أو في مرحلة الانتصارات العظمى للطائفة المنصورة في آخر الزمان لأن الطائفة المنصورة أو الفئة المؤمنة في ذلك الزمان تكون على بينة من أمر الله سبحانه وتعالى ؛ خاصة أنه قد ظهرت معالم المرحلة بصورة جلية لديهم ؛ لذا يتصور توقعهم لخروج الدجال في كل لحظة ، ويتصور الإكثار من ذكره لا العكس ، وهذه النتيجة اللازمة عن طبيعة المرحلة تتعارض كلياً مع ما وصفته الآثار السابقة .
وهذا الإشكال يمكن الإجابة عليه بالقول أن المراد بهذه الآثار عموم الناس وليس الطائفة المنصورة التي يكون كل جهدها في الشام ، بل يراد بها أهل المشرق على وجه العموم ، فتلك الساحة كما فُهم من خلال فصل المهدي تكون خالية حتى من بعض الطائفة المنصورة التي كانت متواجدة هناك ثم توجهت لمركز الصراع نحو الشام وإيلياء ، وخلفت وراءها هناك كل من حصدتهم فتنة الدهيماء ، وهؤلاء يتصور فيهم خفة الدين وانتشار البغضاء و إطباق الجهل وإدبار العلم ، والذهول عن ذكر الدجال ؛ إذا هذه الآثار تتكلم عن عموم الحال الذي يستثنى منه أهل الطائفة المنصورة المتركزة في ذلك الوقت فقط في الشام من الدرجة الأولى وفي الحرمين من الدرجة الثانية وهذا صرحت به بعض الأحاديث التي تبين طبيعة تحركات الدجال وتوجهه نحو مكة والمدينة ، فيحفظها الله بالملائكة ثم يتوجه إلى الشام ، وفي بعض الآثار تعجبت الصحابية أم شريك بنت أبي العكر من تلك الهجمة الشرسة وقالت : « يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : هُمْ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ وَجُلُّهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ » فالمراد بالعرب هنا أهل الإسلام القائمين بأمر الله ، وقد بين النبي أن أكثرهم في بيت المقدس ، وهم قلة قياساً على عموم الأمة .
لذا الأحاديث السابقة تشير إلى عموم حال الأمة أو الناس ، يستثنى منهم القليل وهم الطائفة المنصورة في الشام فقط .
خلاصة القول في زمان خروج الدجال وعلاماته
أول علامات خروج الدجال فتنة الدهيماء التي تعصف بكل الأرض بما يشبه فتنة الدجال .
تنتهي فتنة الدهيماء بالتمييز بين أهل الإيمان وأهل النفاق ، وأهل الإيمان ييسر لهم بتأييدات ربانية إقامة دولة الإسلام الثانية ، ويتصور هذا في زمن المهدي t ، فتجيش الجيوش ضده بما يمهد للملحمة العظمى .
يتم القضاء على شوكة الروم في الملحمة العظمى، وتكون عاصمة المسلمين بيت المقدس .
يتحرك المسلمون نحو القسطنطينية ليفتتحوها ، وذلك يكون بعد ست سنوات من بداية الملحمة العظمى ؛ حيث لا نعلم كم تستمر .
في تلك الأثناء تطرأ تغيرات مناخية ملحوظة تستمر من السنة الرابعة من بداية الملحمة إلى السابعة .
انتصار المسلمين في الملحمة العظمى وتوجههم لفتح القسطنطينية يمهد للمسلمين السيطرة على العالم كله و إقرار الحق والعدل في جميع الأرض فيغضب الدجال ، فيخرج في أثر غضبته لكي يقطع على المسلمين هدفهم المنشود .
المطلب الثالث : مكان خروج الدجال
/ - عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ t أن رَسُولُ اللَّهِ r قَالَ : } الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ. {([86])
شرح الغريب :
خراسان : بلاد معروفة واسعة بين بلاد ما وراء النهر وبلدان العراق ، وهي تشمل حالياً جزء كبير من شرق إيران وأفغانستان و وأجزاء من بعض الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزء من الاتحاد السوفيتي سابقاً مثل أوزباكستان ، وطاجيكستان .
وجوههم كالمجان المطرقة : المجان هي التروس والمطرقة أي التي عليها جلد ملصق على ظهرها ، وهذا الوصف للوجوه موجود في طائفة الترك ( التتر ) والأوزبك .
/ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْيَهُودِ عَلَيْهِمُ التِّيجَانُ. { ([87])
/ - وجاء من كلام رسول الله r تعقيباً على ما أخبر به تميم : } .. أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ . { ([88])
أقول :
قول النبي r بعد ذكر المشرق كلمة ( ما هو ) لا يراد بها النفي ، بل هي زائدة ، والتكرار هنا للتأكيد على أن الدجال يخرج من جهة المشرق .
/ - عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله r : } يخرج الدجال من ها هنا ، وأشار نحو المشرق . { ([89])
قال ابن حبان بعد إخراجه لهذا الحديث : » قول أبي هريرة ( وأشار نحو المشرق ) أراد به البحرين لأن البحرين مشرق المدينة وخروج الدجال يكون من جزيرة من جزائرها لا من خراسان والدليل على صحة هذا أنه موثق في جزيرة من جزائر البحر على ما أخبر تميم الداري، وليس بخراسان بحر ولا جزيرة.« ([90])
شرح :
اعتبار ابن حبان أن الدجال يخرج من البحرين يتعارض مع ما ثبت في نصوص كثيرة من أن المقصد بجهة المشرق خراسان أو أصبهان ، و استدلاله بقصة تميم ليس في محله ؛ إذ إن المقصود بخروج الدجال مبدأ فتنته ، وليس مكان ميلاده أو مكان بقائه في الجزيرة ، وبالتالي ليس هناك تعارض بين حديث تميم والأحاديث التي تحدد مكان خروجه ، ويكون المقصود أن الدجال موثق حالياً في إحدى الجزر في البحر ، وعندما يأتي وعد الله يتحرك للمنطقة التي سيخرج منها بفتنته ويتحرك منها أتباعه ؛ كذلك القول أن الدجال في إحدى جزائر الخليج العربي قرب البحرين ليس في محله كما بينت سابقاً .
/ - عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ : قال رَسُولُ r عن الدَّجَّال : } إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا . { ([91])
شرح الغريب :
خلة بين الشام والعراق : أي خارج قبالة الشام والعراق ؛ أو في موضع بين الشام والعراق ، جاء في بعض الروايات للحديث حلة بالحاء المهملة ، وهي نفس المعنى ، وجاء في كتاب العين أن الحلة موضع حزن وصخور ، وقد يراد به موضع مخصوص في بادية الشام من ناحية العراق ، والراجح أنها خلة ، ويقصد بها أنه خارج بين البلدين دون تحديد لجهة مقصودة .
خلاصة القول في مكان خروج الدجال
يتضح من الأحاديث السابقة أن الدجال يخرج من ناحية الشرق ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إنما الخلاف ينصب على تعين جهة مخصوصة لخروجه .
يتضح من بعض الأحاديث أنها عينت أن خروج الدجال من ناحية خراسان ، وهو إقليم كبير يتوزع حاليا في عدة دول ، وجاء في بعضها أنه يخرج من يهودية أصبهان ، وأصبهان في إيران ، لكن الرواية الراجحة أنه يتبعه من أصبهان سبعون ألفاً من يهودها ، و وفقاً للرواية الراجحة لا يلزم من إتباع يهود أصبهان للدجال أنه يخرج منها ، وعلى العموم تعتبر أصبهان قريبة أو ضمن إقليم خراسان ؛ لذا يكون ذكر أصبهان هنا من باب التخصيص .
يتضح من شكل أتباع الدجال أن بداية خروجه سيكون قريباً من القومية الأوزبكية على وجه الخصوص ، وبالتالي إما يكون في شمال شرق إيران أو يكون في بداية خروجه في دولة أوزباكستان أو ما جاورها .
جاء في بعض الروايات الصحيحة أن الدجال خارج في خلة بين الشام والعراق ، ولا تعارض بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى ؛ إذ قد يكون له عدة خرجات بدايتها في أصبهان وخراسان ، ثم ينتقل ناحية الغرب فيتركز فيما بين العراق والشام .
المطلب الرابع : أتباع الدجال
أولا: اليهـود .
/ - عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ { ([92])
شرح الغريب :
الطيالسة : الطيلسان كساء غليظ مخطط .
شرح :
يلحظ من الأحاديث الصريحة بأن الدجال يتبعه من يهود أصبهان فقط سبعون ألفاً ، و هذا الحديث لا يدل على اقتصار أتباع الدجال من اليهود على السبعين ، بل هؤلاء هم شرارة الدجال الأولى في أول مخرجه ، وإذا كان أتباعه من أصبهان سبعين ألفاً ، فيتصور أن يكون أتباعه من غيرها أكثر بكثير ، وقد ورد في بعض الآثار أن عامة أتباع الدجال يكون من اليهود .
ومن تعرف على العقلية اليهودية يجد أنها أنسب العقليات إتباعاً للدجال ونصرة لفتنته ، فاليهود من بداية ديانتهم ، وهم يرفضون إلهاً يغيب عن أعينهم ؛ لذا طلبوا من موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة ، وهم الذين طلبوا من موسى عليه السلام بعد نجاتهم من فرعون وخروجهم من البحر أن يجعل لهم آلهة يعكفون عليها ، وهم الذين وقعوا مباشرة في فتنة العجل بعد غياب قصير لموسى عليه السلام ، فهذه الوقائع في زمن نبيهم تدل على عقلية منحرفة مريضة لا تؤمن إلا في المشاهدات ، يضاف إلى ذلك أنها عقلية شهوانية مادية لا تترعرع إلا في ظلها ، ولا تؤمن إلا بها ، يضاف إلى ذلك أنها أكثر ملة في الملل حرفت في تعاليم الله سبحانه وتعالى وشوهت صورة الأنبياء ، بل تعدى الأمر إلى التجديف بالكفر صراحة بوصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق به .
فإذا أضفنا إلى ذلك أن اليهود ينتظرون مخلصاً لهم في آخر الزمان ، ويصفونه بأنه ملك السلام الذي بشروا به ، ناسب ذلك أن يكون مخلصهم هو الدجال بعينه ، وناسب ذلك أن يكون إلههم الذي كانت تتشوف نفوسهم إليه ؛ هذا الإله المادي الذي يرعى شهواتهم ، ويلاحق أهواءهم.
ثانياً : الفرق المارقة والخوارج .
/ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } يَنْشَأُ نَشْءٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْـرِينَ مَرَّةً ، حَتَّى يَخْرُجَ فِي عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ . { ([93])
شرح الغريب :
تراقيهم : الترقوة العضم الذي بين أعلى الصدر والعاتق ، ويراد به هنا أن القرآن لا يصل إلى قلوبهم فيوعوه ، بل يقتصر على قراءة اللسان دون تعقل .
خرج قرن : أي ظهرت طائفة منهم .
/ - عن أبي برزة في حديث طويل عن الخوارج وفيه عن رسول الله r أنه قال : } يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كَأَنَّ هَذَا مِنْهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ لَا يَزَالُونَ يَخْرُجُونَ حَتَّى يَخْرُجَ آخِرُهُمْ مَعَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ.{([94])
شرح الغريب :
يمرقون : المروق الخروج سريعاً . الرمية : الهدف
سيماهم : أي علامتهم .
شرح :
يتضح من الأحاديث السابقة أن بعض أتباع الدجال وشيعته هم بعض خوارج الأمة ، والحقيقة أن الخارجية تمثل عقلية منحرفة بمواصفات معينة أكثر ما هي جماعة معينة ، وقد بدأت ظاهرة الخارجية في زمن على t ، وتم القضاء عليها ، إلا أنه لم يتم القضاء على العقلية المنحرفة التي تعتبر منبعاً للخوارج إلى زمن الدجال ، فالخارجية هي : وصف جامع لكل سفهاء الأحلام صغار الأسنان ممن لا يجدون في تعاليم الإسلام الحقة بغيتهم ، فيأخذون بظاهر الإسلام ، ويغلون في فهمه ويعمدون إلى دين الله فيؤولون النصوص ، ويعطلون ما شاءوا منها ، وينصبون أنفسهم للحرب على أهل الإسلام باسم الإسلام ، ويشهرون سيف التكفير في وجوههم ، وهذا وجه الخطر فيهم .
وهذه العقلية بهذه الأوصاف لم تقتصر على ظاهرة الخوارج في زمن علي t بل تشمل كل الفرق الضالة ، وكل الفرق الباطنية التي خرجت عن دين الله وتدعي بخروجها أنها تنصر هذا الدين ، والغاية التي تجمعها هو الاتفاق مع كل الملل حولها على مناصبة العداء للإسلام وأهله الصادقين من خلال نصوص الدين نفسه .
والملاحظ من الأحاديث أن أول أتباع الدجال من المارقين على الإسلام وخوارجه هم طائفة منهم من عراض الوجوه ، وقلنا هذا الوصف يتناسب مع العرقية الأوزبكية أو المغولية ، وهم أقرب الناس من الدجال عند خروجه من ناحية خراسان .
ثالثاً : أصحاب البدع والضلالات .
/ - عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا قَدَرَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلَا تَشْهَدُوا جَنَازَتَهُ وَمَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلَا تَعُودُوهُمْ وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ . { ([95])
أقول :
- المجوس هم عباد النار من الفرس ومن تابعهم ، وهم يقولون بوجود إله النور وإله الظلمة ؛ أي أنهم يثبتون فاعلين في الكون ، و كذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله و الشر إلى غيره ، وهم بذلك يثبتون فاعلين في الكون ، فأشبهوا بذلك المجوس ، ولمنطقة فارس صولات وجولات للقدرية .
- هذا الحديث كما يتضح في الحاشية فيه مقال ؛ لكن لو نظرنا إلى الأحاديث الصحيحة الدالة على أن كل فتنة منذ خلقت الأرض تعتبر موطئة للدجال ، أمكن تصور أن كل أصحاب البدع والأهواء سيجدون في الدجال بغيتهم ، وبالتالي بقايا أصحاب البدع سيجمعهم الدجال تحت لوائه ، فهم من شيعته وعلى سنته ، أما عدوه الحقيقي فهم الطائفة القائمة على الحق .
- الآثار أشارت إلى طائفة القدرية ، والأمر في ظني أوسع من ذلك ، ويشمل كل أصحاب البدع العقدية ، الذين ناصبوا أهل السنة والجماعة العداء ، وبدت البغضاء من أفواههم وما خفي في قلوبهم أعظم ، فهؤلاء يجدون بغيتهم في الدجال في إكمال حربهم على أهل السنة ، فالأهداف مشتركة والعدو واحد .
والغريب أن بعض هذه الطوائف كالجهمية والمعتزلة ، وغيرها تنكر وجود الدجال وهذه من الفتن الموطئة للدجال التي وقعوا فيها ، بالتالي لا حظ لهم من تحذير النبي r منه ؛ لذا هم أول من يقع في فتنته ؛ خاصة أنه قد غيبت من ذاكرتهم وجوده أو وقوع فتنته .
والغريب أيضاً أن أكثر أصحاب البدع العقدية والفرق الباطنية أصولها كلها موجودة في الشرق ، وهذا يعزز عندنا فهم قول النبي r أنه ما من فتنة إلا هي موطئة للدجال ، فتكون فتنهم كالمنهج التحضيري لفتنة الدجال .
رابعاً : النساء .
/ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r } يَنْزِلُ الدَّجَّالُ فِي هَذِهِ السَّبَخَةِ بِمَرِّقَنَاةَ فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ النِّسَاءُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْجِعُ إِلَى حَمِيمِهِ وَإِلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ فَيُوثِقُهَا رِبَاطًا مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ . { ([96])
شرح :
المعلوم أن المرأة تتميز بميل للشهوة ،وعدم ضبطها وتعقلها للأمور كالرجل ؛ إضافة إلى ضعف نفسيتها وعدم قدرتها على التحمل والصبر كالرجل ، لذا حذر النبي r من فتنة النساء ، وأعتبرها أعظم فتن أمة محمد r ، وهذا يفسر لنا تركيز أهل الباطل على المرأة ، وتزيين إفسادها بحجة تحريرها .
وبالتالي تعتبر فتنة النساء التي تقع فيها الأمة إحدى الفتن الموطئة والمعززة لفتنة الدجال ، فالنساء تعتبر إحدى حبائل الدجال ؛ لذا يكون ترغيبهن في إتباعه ، وتزيين طريقه المشبعة بالشهوات والترف أحد وسائل الدجال في إغوائهن ؛ فإذا أضفنا إلى ذلك سطوة الدجال وتحكمه في خيرات الأرض ، وتلبيسه على الناس بأنه داعية تحرر ونصير المستضعفين كالمرأة في تحررها من الرجل ، فكل هذه العوامل تفسر لنا كثرة أتباع الدجال من النساء .
ولعل واقعنا المعاصر يشهد لما ذكرنا ، وما يشاهده المرء من الفتن التي تقودها النساء في زماننا ، وما تجده من تسهيلات من أهل الباطل للقيام بذلك ، يعطي تصوراً لما سيستجد في هذا الباب على يد الدجال .
خامساً : الشياطين .
/ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما : قَالَ : قال رسول الله r : } إِنَّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً أَوْثَقَهَا سُلَيْمَانُ يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْرَأَ عَلَى النَّاسِ قُرْآنًا . { ([97])
الحديث السابق يشير إلى تحرر الشياطين من سجنها ووثاقها الذي أوثقها إياه سليمان عليه السلام ، وتفلتها على الناس ، وقراءتها على الناس قرآناً ، ولا أعلم هل المقصود بكلمة قرآن هنا القرآن الكريم المعهود ، أو هو كتاب يتلى بما أشبه القرآن ، ودلالة الحديث تشير إلى أنها تكون بين الناس وقد تتجسد على شكل بشر للفتنة بينهم ، وأرى أن تحرر الشياطين يكون إما في زمن الدجال أو قبله بقليل ، وذلك للتمهيد لفتنته ، فتحررهم من السجن يناسب زمن تحرر الدجال من سجنه ، وورد في بعض الآثار أن الشياطين تسير في مقدمة الدجال تدعو لفتنته في القرى والأمصار التي يدخلها الدجال .
والقول بمساندة الشياطين بشكل غير معهود يتناسب مع عظم الفتنة وخطرها ؛ حيث تتحد طاقات إبليس الجن وإبليس الإنس ( المسخ ) في الكيد لأهل الحق في آخر الزمان ، وتتضافر جهود قوى الشر في الإنس والجن للانتصار في معركتهم العصماء .
سادساً : السحرة .
السحرة هم أخبث البشر وأعوان الشيطان وخدامه ، وإنما تتركز خدمتهم للشيطان لأجل الاستفادة من بعض قدراته للتلبيس على الناس واستغلالهم ؛ أي هي مهنة سوداء يمتهنها بعض خبيثي البشر ، وهذه الطائفة من البشر ليس لها مرجعية في سلوكها وعلومها إلا من خلال الطرق الشيطانية السوداء ، وأصدق وصف لهم أنهم عبدة الشيطان ؛ لذا تجد هذه الطائفة بغيتها في كبيرهم أو ساحرهم الدجال الذي يأتي بمخاريق عظيمة تفوق كل ما حصلوه أو تعلموه من خلال الشيطان ، ويرون من سحره ما يجعلهم عباداً له ؛ لذا نجدهم أحرص الناس على اتباعه ، والتعلم منه ، وأكثرهم إخلاصاً في الدعوة لفتنته والتلبيس على الناس ، وقد ورد في بعض الآثار أن السحرة يتبعون الدجال ، ويقدمون بين يديه دجلهم ، وينتشرون بين الناس للترويج له .
سابعاً : أصحاب الشهوات .
المعلوم أن فتنة الدجال هي العظمى ، وحبالها هي الشبهات والشهوات ، والأصناف التي ذكرتها سابقاً هم من أهل الوقوع في فتن الشهوات والشبهات جميعاً ؛ لذا نجد فيهم الإخلاص للدجال ؛ أي هم الصف الأول من الأتباع للدجال .
أما الصف الثاني فيكون من ضعيفي النفوس ممن وقعوا في حبال فتنة الشهوات ، وهؤلاء هم الأكثر في أتباع الدجال ، وجلهم ممن يرتع قبل فتنته في الشهوات دون تمييز بين الحلال والحرام ، أو هم عبدة الدرهم والدينار والعجل من أمة محمد r ، وهؤلاء لا يستطيعون الصبر على فتنة الدجال فيتبعونه مع علمهم بكفره ، وقد ورد في الأثر عن عبيد بن عمر الليثي قال : » يخرج الدجال فيتبعه ناس ، فيقولون نحن نشهد أنه كافر ، وإنما نتبعه لنأكل من طعامه ونرعى من الشجر ، فإذا نزل غضب الله نزل عليهم جميعاً . « ([98])
كلـمة خـتام بخصوص أتباع الدجال
أسأل الله العظيم أن يجنبنا زمان الدجال وفتنته ، وكان الله في عون أهل الحق في ذلك الزمان ، بل كان الله في عون العالم بأسره مما يترتب على هذه الفتنة ، فإضافة إلى ما علمنا من قدرات الدجال فإن أعوانه هم رأس كل شر في العالم فكيف إذا اتحدوا في معركة واحدة وهدف واحد ، وماذا سنفعل في زمن تتفلت فيه الشياطين لتلبس على الناس وتتحرك السحرة بدجلها ، وينتشر الغلاة والخوارج بفكرهم ، ويستأسد الدعاة للبدع ، ويجدون نصرة لهم ، وحرباً على من خالفهم من الدجال ، وينتشر قراء القرآن على الطريقة الدجالية ، ويتكلم المتفيهقون بلسانه ، وتلقي النساء بفتنها لإماتة القلوب أو إفسادها ، ويكثر المتساقطون من عبدة الشهوات والأموال ، والمتزلفون للدجال المزينون لفتنه ، ويكون على رأس هؤلاء كلهم اليهود بما عرفوا فيه من تلبيس وخداع و تحريف وتلاعب بالحق ، وتزيين للباطل .
فلو تصورنا اجتماع العوامل السابقة في فتنة واحدة علمنا مدى خطورتها ، وحق لمثل هذه الفتنة أن يتعوذ الإنسان من شرها في كل صلاة .
كذلك يلحظ مدى مشابهة فتنة الدجال بالفتنة المعاصرة التي وقعت فيها الأمة ؛ وهذا ما يعزز القول بأننا في هذه المرحلة نعيش فتنة الدهيماء .
المبحث الثالث
طبيعة فتنة المسيح الدجال
يلحظ من الأحاديث التي تضمنت فتنة المسيح الدجال أن بعضها يركز على جانب من جوانبها ، وهي أحاديث في الغالب قصيرة المتن ، وبعضها يتناول جوانب عدة من فتنة المسيح الدجال بما يشبه قصة متكاملة ، وهي المطولات من أحاديث الدجال ؛ لذا رأيت أن أخصص هذا المبحث والذي يليه للأحاديث التفصيلية القصيرة أو المجتزأة ، وأضمن كل حديث ترجمة تدل على معناه ، ثم أذكر في المبحث الأخير المطولات لكي يصبح عندنا تصور متكامل لطبيعة فتنته ، وتفصيل ذلك في المطالب التالية :
المطلب الأول : واقع الدجال لا يتناسب مع ادعائه الربوبية
/ - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } لَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ وَمَشَى فِي الْأَسْوَاقِ يَعْنِي الدَّجَّالَ . { ([99])
/ - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ r كَانَ يَقُولُ : } إِنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ ، وَهُوَ أَعْوَرُ عَيْنِ الشِّمَالِ ، عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ ، وَإِنَّهُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ : أَنَا رَبُّكُمْ فَمَنْ قَالَ : أَنْتَ رَبِّي ، فَقَدْ فُتِنَ وَمَنْ قَالَ : رَبِّيَ اللَّهُ حَتَّى يَمُوتَ ، فَقَدْ عُصِمَ مِنْ فِتْنَتِهِ ، وَلَا فِتْنَةَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ ، فَيَلْبَثُ فِي الْأَرْضِ – أي الدجال - مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَجِيءُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَام مِنْ قِبَلِ الْمَغْـرِبِ مُصَدِّقًا بِمُحَمَّدٍ r وَعَلَى مِلَّتِـهِ فَيَقْتُلُ الدَّجَّـالَ ثُمَّ إِنَّمَا هُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ . { ([100])
شرح :
الحديث الأول يشير إلى أن الدجال يقع منه ما يقع من البشر ، وهو أكل الطعام والمشي في الأسواق ، وهذا يتنافى مع دعواه الربوبية ؛ فإذا أضفنا إلى ذلك بقية صفات النقص الأخرى الواردة في حقه منها العلامة الفاصلة الواردة في الحديث الثاني وهي كونه أعورَ، تبين أنه بدعواه كاذب .
مشي الدجال و أكله الطعام هنا يعزز كونه من البشر ، ولكنه ليس جازماً في الدلالة على ذلك ؛ لأنه يحتمل أن يكون حالة خاصة جمعت بين الإنس والجن ، وهناك أدلة كثيرة تشير إلى ذلك .
الحديث الثاني يشير إلى بعض قدرات الدجال : كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وهذه القدرات الخاصة أعطيت للدجال من باب الاستدراج فقط ، ويحدث مثلها وإن كانت أقل في الدرجة مع كثير من أصحاب الأحوال الشيطانية ، أما بخصوص إحياء الموتى ، فهي في الغالب تخييلية مع الدجال كما سيتضح في بعض الأحاديث ، ويستعين بالجن والشياطين في تلبيسه على الناس بها ، أما الحالة الوحيدة التي يحيي الموتى فيها فهي قصة الرجل التي سترد علينا ، وهو الوحيد الذي يسلط عليه بهذا الشكل ويحييه ، وكما ذكرت ، كل ذلك يدخل في باب الاستدراج .
غاية ما في قدرات الدجال إنما الغرض منها هو إغواء الناس ؛ لذا يربط بين هذه القدرات وبين دعوة الناس إلى الإيمان بربوبيته ؛ ويكفي أن يُفتن الإنسان أن يوافق الدجال في ادعائه الربوبية ، أما إذا ثبت الإنسان في هذا المقام فقد عصم من فتنة الدجال ، وإن كان الأمر ليس هينا كما سنلاحظ في الأحاديث القادمة .
يلحظ في هذه الأحاديث أن الدجال يستخدم أسلوب إثارة الشبهات للتلبيس على الناس ، وفي مواطن أخرى سنلحظ أنه يستخدم أسلوب الترغيب والترهيب بخصوص الشهوات ، وكلا الأمرين هما سلاح الدجال في معركته ، وهما أسلحة إبليس وكل أباليس البشر منذ خلقت الأرض إلى قيام الساعة .
المطلب الثاني : فتنة الدجال فتنة عامة مرعبة
/ - عَنْ أَبِي بَكْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ : } لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ . { ([101])
/ - عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: } لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ . { ([102])
/ - عن جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عن رجل من أصحاب النبي r عن النبي r قال عن الدجال : } يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ كُلَّ مَنْهَلٍ لَا يَأْتِي أَرْبَعَةَ : مَسَاجِدَ فَذَكَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَالطُّورَ وَالْمَدِينَةَ { ([103])
/ - عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ! فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ ، أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ هَكَذَا قَالَ . { ([104])
/ - عن أُمُّ شَرِيكٍ رضي الله عنها أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ r يَقُولُ : } لَيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ فِي الْجِبَالِ قَالَتْ أُمُّ شَـرِيكٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: هُمْ قَلِيلٌ { ([105])
/ - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } يَنْزِلُ الدَّجَّالُ فِي هَذِهِ السَّبَخَةِ بِمَرِّقَنَاةَ فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ النِّسَاءُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْجِعُ إِلَى حَمِيمِهِ وَإِلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ ، فَيُوثِقُهَا رِبَاطًا مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ يُسَلِّطُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ فَيَقْتُلُونَهُ وَيَقْتُلُونَ شِيعَتَهُ ، حَتَّى إِنَّ الْيَهُودِيَّ لَيَخْتَبِئُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَوِ الْحَجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرَةُ لِلْمُسْلِمِ : هَذَا يَهُودِيٌّ تَحْتِي فَاقْتُلْهُ . { ([106])
شرح :
يلحظ من الأحاديث السابقة أن فتنة الدجال ليست فتنة هينة ، كما يتصور البعض بل هي أيام كالحات من الرعب والشبهات والإرهاب بكل معانيه ؛ عنوانها الأساسي هو قتل وتجويع كل من يخالفه ؛ لذا وصى النبي r بعدم الاستهانة بآثار هذه الفتنة على النفوس مهما كانت قوة إيمان الإنسان ، ونصيحة النبي r لكل من سمع بالدجال أن يجتهد في الابتعاد عنه مهما بلغ إيمان هذا الإنسان ؛ لأنه لا يأمن على نفسه من الفتنة .
الأحاديث تشير إلى أن فتنة الدجال ستعم الأرض جميعاً ، حتى لا يبقى منهل في الأرض أو مكان إلا دخلته فتنته ، و دخلها سلطانه وسطوته ، فإذا علمنا أن أجهزة استخباراته ستكون من الشياطين والسحرة ، و كثير من المنتسبين لهذه الأمة ، عرفنا درجة خطورة فتنته .
بينت الأحاديث السابقة المواطن المعصومة من فتنة الدجال ، وهي مواطن أربعة : المدينة و مكة وبيت المقدس وجبل الطور .
نلحظ مدى المشابهة بين فتنة الدجال، وفتنة أمريكيا في عصرنا مما يوحي أن الأمر قريب ، أو يعزز القول بأننا الآن نخوض غمار فتنة الدهيماء ، وهي الأكثر شبهاً بفتنة الدجال.
المطلب الثالث : شبهات الدجال وشهواته
/ - عن حذيفة t قال : قال رسول الله r : } إِنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إِذَا خَرَجَ مَاءً وَنَارًا ، فَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا النَّارُ ، فَمَاءٌ بَارِدٌ ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ ، فَنَارٌ تُحْرِقُ ،فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَى أَنَّهَا نَارٌ فَإِنَّهُ عَذْبٌ بَارِدٌ. {
وفي رواية مسلم } لَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ: أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ وَالْآخَرُ ، رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا ، وَلْيُغَمِّضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ ، فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ . { ([107])
/ - عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ r فِي بَيْتِهِ فَقَالَ : } إِذَا كَانَ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ بِثَلَاثِ سِنِينَ ، حَبَسَتِ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا وَحَبَسَتِ الْأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا ، فَإِذَا كَانَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ حَبَسَتِ السَّمَاءُ ثُلُثَيْ قَطْرِهَا ، وَحَبَسَتِ الْأَرْضُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا . فَإِذَا كَانَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ حَبَسَتِ السَّمَاءُ قَطْرَهَا كُلَّهُ ،وَحَبَسَتِ الْأَرْضُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ ،فَلَا يَبْقَى ذُو خُفٍّ وَلَا ظِلْفٍ إِلَّا هَلَكَ ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ : لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتُ إِبِلَكَ ضِخَامًا ضُرُوعُهَا عِظَامًا أَسْنِمَتُهَا أَتَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ! فَتَمَثَّلُ لَهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى صُورَةِ إِبِلِهِ فَيَتَّبِعُهُ ، وَيَقُولُ لِلرَّجُلِ : أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتُ أَبَاكَ وَابْنَكَ وَمَنْ تَعْرِفُ مِنْ أَهْلِكَ أَتَعْلَمُ أَنِّي رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ! فَيُمَثِّلُ لَهُ الشَّيَاطِينَ عَلَى صُوَرِهِمْ فَيَتَّبِعُهُ ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ r وَبَكَى أَهْلُ الْبَيْتِ ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ r وَنَحْنُ نَبْكِي ، فَقَالَ : مَا يُبْكِيكُمْ ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَكَرْتَ مِنَ الدَّجَّالِ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَمَةَ أَهْلِي لَتَعْجِنُ عَجِينَهَا فَمَا تَبْلُغُ حَتَّى تَكَادَ تَفَتَّتُ مِنَ الْجُوعِ ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ يَوْمَئِذٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r يَكْفِي الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَوْمَئِذٍ التَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ ، ثُمَّ قَالَ : لَا تَبْكُوا فَإِنْ يَخْرُجِ الدَّجَّالُ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ وَإِنْ يَخْرُجْ بَعْدِي فَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ . { ([108])
الحديث يشير إلى تغيرات مناخية مهيئة لفتنة الدجال ، وهذه التغيرات يترتب عليها قحط شديد ومجاعات ؛ لدرجة تهلك فيها أكثر الحيوانات تحملاً وصبراً كالإبل ، وهذه الحال العظيمة تبرز لنا مدى الحال الصعبة التي سيمر بها المؤمنون ، فالمساومة مع الدجال ستكون ابتداءً على سد الرمق .
الحديث يشير إلى دور الشياطين في الإغواء مع الدجال ، و أساليبهم في تسهيل فتنه ، وترويج دجله على الناس ، ولعل الحديث يشير إلى جانب واحد من أساليبهم اقتصر النبي r على ذكره بما تتضح معه باقي الصور المشابهة .
في الحديث إشارة إلى جانب كبير من فتنة الدجال وهو السحر والتخييل والاستعانة بالجن والشياطين ، ولعل الشياطين في زمانه تكون أقدر على التمثل والتجسد من زماننا ، وكذلك في الحديث إشارة إلى طبيعة فتنة الدجال في كون المقصود منها حصول الغواية للناس لا نفعهم ، وإلا فهذا الأعرابي الذي يؤمن به ويسقط في الهاوية ماذا سيستفيد من تلك الإبل التي هي عبارة عن جن مجسدة ؟ !
المراد من قول أسماء » إِنَّ أَمَةَ أَهْلِي لَتَعْجِنُ عَجِينَهَا فَمَا تَبْلُغُ حَتَّى تَكَادَ تَفَتَّتُ مِنَ الْجُوعِ « هو أن الإنسان لا يحتمل الصبر على الجوع مدة طويلة فذكرت مثالاً من واقعهم ، وهو أن المرأة لا تكاد تنتهي من العجين والصبر عليه حتى يخبز إلا أصابها الجوع ، وهي فترة قصيرة تقدر بالسويعات ، فكيف بالصبر على تلك السنوات الثلاث الشداد .
/ - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ t قَالَ مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ r عَنِ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُ قَالَ : } وَمَا يُنْصِبُكَ مِنْهُ إِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَعَهُ الطَّعَامَ وَالْأَنْهَارَ قَالَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ . {
وفي رواية:} إِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعَهُ جِبَالٌ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ وَنَهَرٌ مِنْ مَاءٍ { ([109])
قد يتصور أن هناك تعارضاً بين هذا الحديث وسابقه ؛ حيث أثبت في الأول وجود الماء مع الدجال ، وهنا قال هو أهون على الله I من ذلك بما يشبه النفي من كون الدجال معه أنهار .
ويدفع هذا الإشكال بأن الدجال أهون على الله سبحانه وتعالى من أن يجري على يديه أنهاراً حقيقية أي صورة ومعنى ، أما ما يكون مع الدجال فإنه يُرى للرائي أنه ماء وليس ماءً على الحقيقة .
أو يراد به أنه أهون من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضلاً للمؤمنين ، أو مشككاً لقلوب الموقنين ، بل ليزداد الذين آمنوا إيماناً ، ويرتاب الذين في قلوبهم مرض .
أو يراد به أنه أهون من أن يجعل شيئاً من ذلك آية على صدقه ، ولا سيما أنه جعل فيه آية واضحة دالة على كفره بين عينه ، إضافة إلى العلامات الأخرى الدالة على نقصه ، وحدوثه . ([110])
/ - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي خَفْقَةٍ مِنَ الدِّينِ وَإِدْبَارٍ مِنَ الْعِلْمِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً يَسِيحُهَا فِي الْأَرْضِ الْيَوْمُ مِنْهَا كَالسَّنَةِ وَالْيَوْمُ مِنْهَا كَالشَّهْرِ وَالْيَوْمُ مِنْهَا كَالْجُمُعَةِ ثُمَّ سَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ هَذِهِ وَلَهُ حِمَارٌ يَرْكَبُهُ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا فَيَقُولُ لِلنَّاسِ أَنَا رَبُّكُمْ وَهُوَ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ ك ف ر مُهَجَّاةٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٌ وَغَيْرُ كَاتِبٍ يَرِدُ كُلَّ مَاءٍ وَمَنْهَلٍ إِلَّا الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَامَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَبْوَابِهَا وَمَعَهُ جِبَالٌ مِنْ خُبْزٍ وَالنَّاسُ فِي جَهْدٍ إِلَّا مَنْ تَبِعَهُ وَمَعَهُ نَهْرَانِ أَنَا أَعْلَمُ بِهِمَا مِنْهُ نَهَرٌ يَقُولُ الْجَنَّةُ وَنَهَرٌ يَقُولُ النَّارُ فَمَنْ أُدْخِلَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْجَنَّةَ فَهُوَ النَّارُ وَمَنْ أُدْخِلَ الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّارَ فَهُوَ الْجَنَّةُ وَيَبْعَثُ اللَّهُ مَعَهُ شَيَاطِينَ تُكَلِّمُ النَّاسَ وَمَعَهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ يَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ { ([111])
/ - عن النواس بن سمعان عن رسول الله r : } ..فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا ، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا ، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ ، لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا : أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ . { ([112])
شرح الغريب :
سارحتهم : السارحة هي الماشية ؛ سميت بذلك لأنها تسرح للمرعى
دراً : اللبن ، وإنما يكثر بالخصب وكثرة المرعى .
الممحل : الذي قد أجدبت أرضه ، وغلت أسعاره .
كيعاسيب النحل : اليعسوب أمير النحل ، والكلام فيه قلب والأصل كنحل اليعاسيب ، لأن النحل تتبع اليعسوب .
شرح :
حرب الدجال هي حرب شهوات وشبهات ، وهي نفسها حرب إبليس لعنه الله ، والشهوات لا يمكن دفعها إلا بالصبر ، أما الشبهات فتدفع باليقين ؛ ومن حصل الصبر واليقين نجا من فتنة الدجال لعنه الله ، وكان أهلاً للإمامة في الأرض ، يقول الله سبحانه وتعالى : } وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ { ([113])
- يلحظ من الأحاديث السابقة أن ما لدى الدجال من نار أو ماء ليس على حقيقته ، وهذا نوع من الشبهة لا ينفع معها إلا اليقين المخالف لما تشاهده العين ؛ فالنار التي تتأجج أمام عين الناس هي ماء بارد ؛ لذا من كان من أهل الإتباع والانتفاع بسنة رسول الله r سيكذب ما تراه عينه ، ويصدق ما أخبر به نبيه r ، ويتصرف بعين اليقين ، لا بعين المشاهدة ؛ فليغمض عين بصره ، وليفتح عين بصيرته ، وليقترب من النار ، وليشرب منها متيقناً بما أخبر به الرسول الكريم ، فستكون بإذن الله ماءً بارداً .
أما من بهره ما يراه ، وجمحت عنده عين البصر على عين البصيرة فطمستها ، وتعامل مع الواقع كما يراه ، وأراد أن يغترف من الماء ، ووقع في شبهة الدجال ، فهذا سينال الخسران .
و هذه الشبهة المذكورة في الأحاديث تدل دلالة واضحة أن الدجال لا يريد الخير للبشرية بقدر ما يريد إغوائها ، فمن يتبعه ومن يرضى به لا ينال منه خير الدنيا كما يتصور ، إذ ليس في القرب من الدجال إلا البوار ، و ماؤه نار ، و ليت الأمة تنتبه في عصرنا إلى أن ماء كل دجال قبل الدجال الأكبر هي أيضاً نار .
حديث النواس بن سمعان الأخير يشير إلى مدى فتنة الشهوات التي يستغلها الدجال ، فأتباعه ينعمون قليلاً بنعم الدنيا الزائل ، ومن يعارض الدجال يضيق عليه بالأرزاق والنعم قليلاً ، أي فترة الفتنة ، ويفرض عليه عقوبات اقتصادية قاسية ، أقسى بكثير مما نعهده في زماننا ؛ وطبعاً كل ذلك بقدر من الله سبحانه وتعالى ، لحكم يقتضيها وترشد إليها الآيات التالية يقول الله سبحانه وتعالى : } أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ { ([114]) فالإيمان الموجب للنعمة العظمى ، وهي الفوز بالجنة والنجاة من النار ليس مجرد دعوى باللسان فقط ، ولئن حصل هذا الادعاء ، فلا بد من اختباره } لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ { ([115]) ، ولا بد لأهل الله سبحانه وتعالى أن يميزوا عن أهل الادعاء الكاذب ، فهذا من مقتضيات الاختبار ونتائجه } مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ { ([116])
الملاحظ على الدجال أنه لا يعرف المساومة ، فشعاره : من ليس معنا فهو ضدناً ؛ لذا لا نلحظ زمن فتنة الدجال إلا فريقين فقط : أتباع الدجال وهم الأكثر في الأرض ، والفئة المؤمنة الصادقة ، وهم قليل .
المطلب الرابع : قصة الرجل المؤمن الذي يقتله الدجال
/ - عن أَبي سَعِيدٍ t قَالَ : قال رَسُولُ اللَّهِ r : } يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ .
فَيَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ r حَدِيثَهُ .
فَيَقُولُ الدَّجَّالُ :أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ ؟
فَيَقُولُونَ – أي شيعة الدجال - : لَا .
فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ .
فَيَقُولُ – أي الرجل المؤمن - : وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ . { ([117])
شرح الغريب :
السباخ : جمع سَبَخة وهي الأرض الرملة التي لا تنبت لملوحتها ، وهذه الصفة خارج المدينة من غير جهة الحرة .
/ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :} يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَتَلْقَاهُ الْمَسَالِحُ : مَسَالِحُ الدَّجَّالِ .
فَيَقُولُونَ لَهُ : أَيْنَ تَعْمِدُ ؟
فَيَقُولُ : أَعْمِدُ إِلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ .
فَيَقُولُونَ لَهُ : أَوَ مَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا ؟
فَيَقُولُ : مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ .
فَيَقُولُونَ : اقْتُلُوهُ .
فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَحَدًا دُونَهُ ؟
قَالَ – أي رسول الله - فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّالِ .
فَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الدَّجَّالُ الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ r قَالَ رسول الله r : فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ ، فَيُشَبَّحُ .
فَيَقُولُ : خُذُوهُ وَشُجُّوهُ فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْبًا .
قَالَ : فَيَقُولُ : أَوَ مَا تُؤْمِنُ بِي ؟
قَالَ : فَيَقُولُ : أَنْتَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ .
قَالَ : فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُؤْشَرُ بِالْمِئْشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حَتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ .
قَالَ رسول الله r : ثُمَّ يَمْشِي الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : قُمْ فَيَسْتَوِي قَائِمًا .
قَالَ ثُمَّ يَقُولُ : لَهُ أَتُؤْمِنُ بِي ؟
فَيَقُولُ : مَا ازْدَدْتُ فِيكَ إِلَّا بَصِيرَةً .
قَالَ ثُمَّ يَقُولُ : - أي الرجل الصالح - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ .
قَالَ رسول الله r : فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ ، فَيُجْعَلَ مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ نُحَاسًا ، فَلَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا ، قَالَ : فَيَأْخُذُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّمَا قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَ فِي الْجَنَّةِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ . { ([118])
شرح :
الأحاديث تشير إلى رجل يتسلط عليه الدجال لعنه الله سبحانه وتعالى ، وقد اختلف في كنه هذا الرجل : قيل هو الخضر ، وهذه دعوى ليس عليها برهان ، ومستند من زعم ذلك أثر ضعيف ، ومعرفة من هو الرجل ليست ذات أهمية ، ويكفي معرفة أن هذا الرجل هو أعظم الناس شهادة عند الله سبحانه وتعالى ، ووجه عظمة شهادته في أنه واجه بكلمة الحق أشد السلاطين جوراً على وجه البسيطة ، وهو الدجال لعنه الله سبحانه وتعالى ، وثباته على الحق وتبصره به مع توفر دواعي الشبهة القوية ، و استمراره على دعوة الحق حتى بعد تعذيب الدجال له ، والأجر على قدر المشقة .
هذه الأحاديث تبين بعض المراد من قول النبي r عن الدجال هو أهون على الله من ذلك . فالدجال مع توفر كل فتن الشهوات والشبهات لديه ، ومع ما آوتي من قدرات ؛ إلا أنه مع كل ذلك لا يملك تغيير القلوب الممتلئة إيماناً أو يؤثر فيها ، وغاية تأثيره على ضعاف الإيمان ، وأهل الوقوع في الشهوات والشبهات قبل حصول فتنته ، أما أهل الإيمان فيزدادوا إيماناً ، وهذا يعزز القول بأن فتنة الدجال هي فتنة حصاد لا فتنة زرع ، بمعنى أن الفتن التي قبله تزرع ، وفتنة الدجال تحصد ، ومن كان من أهل الإيمان الحق قبل الدجال ، كان أيضاً من أهله بعد فتنة الدجال ، ومن كان من أهل الريبة ، أو ممن يعبدون الله على حرف ، فهؤلاء هم مطمع الدجال ، ومدار فتنته .
الحديث الأول يشير إلى أن الدجال لا يملك الإحياء والإماتة بعد هذا الرجل قطعاً ، ورواية أبي أمامة الباهلي التي سأذكرها في المطولات تدل على أنه لا يسلط إلا على هذا الرجل .
أما بعض الروايات الأخرى التي تشير إلى قدرة الدجال على الإحياء ، فذلك
يكون على وجه التخييل لا الحقيقة كما سيأتي بيانه .
قد يسأل سائل : كيف يجوز أن يجري الله الخوارق التي هي بمثابة الآيات على يد كافر ، كإحياء الموتى مثلاً التي تعتبر آية عظيمة لم يؤيد بمثلها إلا الأنبياء ؟
ويجاب على ذلك بأنه يجريه على سبيل الفتنة والاستدراج ، والفرق بينه وبين ما يؤيد به الأنبياء واضح ؛ لأن الأنبياء أُيدوا بالآيات ودلالات حالهم تشهد أيضاً بصدق دعواهم النبوة ، أما الدجال فأيد بالخوارق ودلالة حاله تشهد بأنه كاذب في دعواه الربوبية لظهور الآفة في عينه والكفر المكتوب بينهما يضاف إلى ذلك وضوح النقص في ملامحه .
ظاهر القصة يشير بوضوح إلى أن الرجل الذي يخرج إليه هو من أهل المدينة ، وجاء في بعض الروايات أن هذا الرجل يصر على الخروج للدجال لمواجهته وبيان كذبه بالرغم من أن أصحابه حاولوا منعه من ذلك مخافة أن يفتن .
الحديث يبرز مدى أهمية العلم ومدى ضرورة معرفة ما أخبر به النبي r عن الفتن وعلامات الساعة ؛ وسياق القصة يوضح بصورة جلية أن سابق علم الرجل بما أخبر به النبي r عن الدجال وفتنه كان سبباً في ثباته واستنارة بصيرته بالرغم من شدة البلاء .
القصة تشير بوضوح إلى أن المقصد من تقدير حصول فتنة الدجال هو الابتلاء والاختبار ، فإذا تبين نجاح المؤمن في الاختبار كانت فتنة الدجال عليه برداً وسلاماً ، وهذا واضح من السياق حيث ثبت الرجل المؤمن وصدق مع الله سبحانه وتعالى ، فترتب على ذلك انحسار سطوة الدجال وقدرته في حقه ، فلم يستطع أن يسلط عليه فيذبحه في المرة الثانية ، وغاية ما في الأمر أنه عجل له في دخوله الجنة .
المطلب الخامس : مدة فتنة الدجال
/ - عن النواس بن سمعان t عن رسول الله r ، وفيه } .. قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ ؟
قَالَ r : أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ .
قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ ؟
قَالَ r : لَا اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ . { ([119])
شرح
أولاً : أيام الدجال الثلاثة الأولى هل هي على حقيقتها ؟
يتضح من الحديث أن بقاء فتنة الدجال في الأرض أربعون يوماً ، لكن أيامه الثلاثة الأولى تختلف عن أيامنا الحالية كما يتضح من ظاهر اللفظ ، يقول النووي : » قال العلماء هذا الحديث على ظاهره ، وهذه الأيام الثلاثة طويلة على هذا القدر المذكور . « ([120])
ومن نظر إلى سياق الحديث يرى أنه يشهد لهذا القول ؛ حيث ذكر النبي r أن باقي أيام الدجال كسائر أيامنا ، مما يشير أن طول هذه الأيام الثلاثة على حقيقته ، وكذلك تخصيص النبي r حكم الصلاة فيها بأحكام خاصة مبنية على التقدير يدل صراحة على أن الأمر على حقيقته ، نقل النووي عن القاضي وغيره قولهم : » هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع ، قالوا : لولا هذا الحديث ووكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام . « ([121])
رأي لسعيد حوى في أيام الدجال .
يرى سعيد حوى رحمه الله أن الثلاثة أيام الأولى لا تختلف عن باقي أيامنا ، وحمل اللفظ على المجاز ، واعتبر أنه يراد به الشدة ، أي أن اليوم يكون كالسنة في شدته على الناس ، وفي اليوم الثاني تخف الشدة على الناس حتى يصبح اليوم كالشهر ، وفي اليوم الثالث يمر على الناس لشدته كأسبوع .
واستدل على رأيه بأمرين :
الأول : ما ورد عن أبي أمامة الباهلي عن رَسُولُ اللَّهِ r من حديث طويل ، وفيه : } وَإِنَّ أَيَّامَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً السَّنَةُ كَنِصْفِ السَّنَةِ وَالسَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَآخِرُ أَيَّامِهِ كَالشَّرَرَةِ يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَلَا يَبْلُغُ بَابَهَا الْآخَرَ حَتَّى يُمْسِيَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْقِصَارِ قَالَ تَقْدُرُونَ فِيهَا الصَّلَاةَ كَمَا تَقْدُرُونَهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الطِّوَالِ ثُمَّ صَلُّوا { ([122])
فالحديث يشير إلى أن مكثه في الأرض أربعين سنة ، وهذا يتعارض مع الأحاديث الدالة على أن مكثه أربعون يوماً مما يدل على أن الكلام ليس على حقيقته والمراد بالسنة في هذا الأثر اليوم الشديد ، وكذلك القول في الأيام الثلاثة الأولى ، فإنه تتناقص الشدة بعد الصدمة الأولى إلى أن تتلاشى بعد ثلاثة أيام .
الثاني : ما وصلت إليه العلوم في عصرنا تعزز عدم الأخذ بظاهر الحديث ؛ لأن القول بأن اليوم كسنة حقيقية كاملة يترتب عليه أن يقابله في نصف الكرة الأرضية ليل يوازيه ؛ لذا يُحمل الحديث على المجاز ، ويراد بالسنة هنا ليس الوقت ، وإنما في الشدة .
هذا مجمل رأي سعيد حوى وأدلته ، ويمكن أن يرد عليه بالتالي :
الأثر الذي استند إليه سعيد حوى وإن كان رواته ثقات ؛ إلا أن الحديث الأول أرجح منه سنداً ، وأضبط متناً ؛ لذا يرجح على الأثر الثاني لتعذر الجمع بينهما ، أو يحمل المقصود به على الأيام وليس السنوات ، وهذا واضح في نفس النص ؛ حيث عبر في آخره عن السنوات بأنها أيام طوال ، فيكون المقصود فيه ما دل عليه حديث النواس بن سمعان عند مسلم ، ويكون المراد بالتعبير عن تلك الأيام بالسنين نظراً لليوم الأول الذي يشبه في حقيقته سنة كاملة ، ووفق هذا التوجيه يكون الحديث شاهداً لنا على اعتبار اليوم الأول سنة حقيقية .
وجه استدلال سعيد حوى بالأثر الوارد أن الدجال يمكث أربعين سنة لا يسلم ؛ لأن دلالة الحديث أن مدته أربعون سنة ، وحديث النواس بن سمعان أشار إلى أن مدته أربعون يوماً ، فبأي وجه يجمع بين الحديثين على أن المقصود بالثلاثة الأولى الشدة ، وهل الشدة كما يتضح من الأثر الذي ساقه تتحول في آخر الأيام سعادة وراحة لدرجة تجعل اليوم كأنه ساعة في سرعة انقضائه كما يتضح من السياق .
الحديث الذي ساقه سعيد حوى فيه ما ينقض وجه استدلاله ؛ لأن النبي r قد خص الأيام القصار والطوال بأحكام لها بشأن الصلاة ، وهذا لا يتصور إلا إذا كان الأمر على حقيقته .
واقع قصة الدجال يتنافى مع استدلال سعيد حوى باعتبار المراد بالأيام الطوال أنه كناية عن الشدة ، فالمتتبع لقصة الدجال يرى أن أشد أيامها هي الأواخر حيث يحصر الدجال المؤمنين في بقعة صغيرة من الأرض .
أما استدلاله العقلي باعتبار أن مدلول الحديث لو أخذناه على حقيقته يتعارض مع ما وصل إليه علمنا عن حقيقة الكرة الأرضية ، فهذا استدلال غريب ، ولعل وجه الإشكال فيه أنه اعتبر المراد باليوم النهار فقط ، وهذا اعتبار لا برهان عليه .
بل الظاهر من الحديث أن اليوم يراد به الليل والنهار ، خاصة أنه هنا جاء مقابل ذكر الشهر والسنة ، ومن هنا لا يمتنع عقلاً أن يأتي يوم بطول السنة ، بل العلم الحديث سهل لنا تصور ذلك ، فبدلاً من أن تدور الكرة الأرضية حول نفسها في 24 ساعة تدور حول نفسها دورة واحدة مدة 365 يوماً ، ومثل هذه الدورات الطويلة معهودة في كواكب أخرى .
بل الحديث الذي يتكلم عن أيام الدجال الطويلة يتناسق جداً مع الأحاديث الدالة على التغيرات المناخية التي تسبق خروجه من امتناع السماء من المطر ، والأرض من الإنبات مما يدل دلالة صريحة أن هناك تغيراً كونياً هائلاً يسبق خروج الدجال .
الراجـح :
يتضح مما سبق أن مكث الدجال في الأرض أربعون يوماً منها ثلاثة أيام طوال يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع ، وهذه الأيام على حقيقتها .
ثانياً : معنى قول النبي r اقدروا له قدره .
أشار النووي إلى المقصود بالعبارة السابقة بقوله : » إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم فصلوا الظهر ، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر ، فصلوا العصر ، وإذا مضى بعد هذا قدر ما يكون بينها وبين المغرب فصلوا المغرب ، وكذا العشاء والصبح ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ، وهكذا حتى ينقضي ذلك اليوم ، وقد وقع فيه صلوات سنة فرائض كلها مؤداة في وقتها . «
كلام النووي واضح ومقتضاه أن يصلي العبد في اليوم الأول 5صلوات × 365 = 1825 صلاة فريضة ، ويصلي في اليوم الثاني 5 × 30 = 180 صلاة فريضة ، ويصلي في اليوم الثالث 5× 7 = 35 صلاة فريضة ، ويكون تقدير ذلك وفق الأيام الطبيعية التي تكون قبل تلك الفتنة .
ثالثاً : لـيل الدجـال الطـويل .
بعد مضي نهار اليوم الأول للدجال بفظائعه وجرائمه وشبهاته و أحداثه الدامية وإرهابه الذي لم يبلغ مثله إرهاب ، وتبدأ الشمس في المغيب لأطول فترة لها وهي ستة أشهر ، يبدأ رعب هذا الليل الطويل من عسكر أجبر دكتاتور عرفته البشرية ، دكتاتور يدعي صراحة أنه إله ، وللإله معاملة عبيده كيفما شاء ، ولئن سمعنا عن ليالي هتلر وعسكره ومخابراته ، ولئن سمعنا بليالي غيره من الطواغيت وما كان يقع فيها من هتك للأعراض واستباحة للأموال والدماء ، وما يتضمنها من ترويع للآمنين ، فهو قليل بالنسبة لعهد الدجال ، الذي يجتمع حوله كل قساة القلوب من المجرمين والمارقين والحاقدين على كل ما هو حق أو من أهله على الأرض .
وهذا الليل يختلف كماً وكيفاً ونوعاً عن غيره من الليالي فأعان الله سبحانه وتعالى أهل الحق عليه ، ونسأل الله أن يجنبنا زمانه .
المطلب السادس : الفئة المؤمنة المتصدية للدجال
/ - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نـَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ . { ([123])
/ - عن عِكْرِمَةُ عن رجل من الصحابة عن النبي r قال لرجل نال من قبيلة تميم بسوء : } لَا تَقُلْ لِبَنِي تَمِيمٍ إِلَّا خَيْرًا فَإِنَّهُمْ أَطْوَلُ النَّاسِ رِمَاحًا عَلَى الدَّجَّالِ . { ([124])
وفي رواية لأبي هريرة t قَالَ : « مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلَاثٍ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r يَقُولُ فِيهِمْ : } هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ .. { ([125])
شرح :
الحديث الأول يشير إلى بقاء طائفة على الحق ما بقي الدين إلى أن يقاتل آخرهم الدجال ، وهذه الطائفة أشار لها النبي r بأنها في زمان الدجال تتركز في بيت المقدس وأكنافه ، وقد بين النبي r أن عددهم يكون قليلاً ، وذلك عندما سألته أم شريك بقولها : وأين العرب ؟ فقال النبي r : في بيت المقدس وهم قليل ، وقد جاء في بعض الروايات ذكر للعدد بأنهم اثنا عشر ألفاً من الرجال وسبعة آلاف امرأة فقط .
الحديث الثاني يشير إلى قبيلة معينة يكون لها الحظ الأوفر في التصدي للدجال وعسكره وهم بنو تميم .
المطلب السابع : العواصم من الدجال
أولاً : الأماكن المعصومة :
/ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : } يَأْتِي الْمَسِيحُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ هِمَّتُهُ الْمَدِينَةُ حَتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ ثُمَّ تَصْرِفُ الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ وَهُنَالِكَ يَهْلِكُ . { وفي رواية } حَتَّى يَنْزِلَ دَائِرَ أُحُدٍ { ([126])
/ - عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : } يَوْمُ الْخَلَاصِ ، وَمَا يَوْمُ الْخَلَاصِ ؟
يَوْمُ الْخَلَاصِ وَمَا يَوْمُ الْخَلَاصِ ؟
يَوْمُ الْخَلَاصِ وَمَا يَوْمُ الْخَلَاصِ ؟ ثَلَاثًا
فَقِيلَ لَهُ : وَمَا يَوْمُ الْخَلَاصِ ؟
قَالَ : يَجِيءُ الدَّجَّالُ فَيَصْعَدُ أُحُدًا فَيَنْظُرُ الْمَدِينَةَ فَيَقُولُ : لِأَصْحَابِهِ أَتَرَوْنَ هَذَا الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ ! هَذَا مَسْجِدُ أَحْمَدَ ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَدِينَةَ فَيَجِدُ بِكُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكًا مُصْلِتًا ، فَيَأْتِي سَبْخَةَ الْحَرْفِ ، فَيَضْرِبُ رُوَاقَهُ ، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ وَلَا فَاسِقٌ وَلَا فَاسِقَةٌ إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ فَذَلِكَ يَوْمُ الْخَلَاصِ . { ([127])
شرح :
الحديث فيه إشارة عجيبة وهي أن المسجد النبوي الذي كان في عهد النبي r عند ذكره لهذا الكلام عبارة عن عريش من الجريد سيصبح أشبه بالقصر العظيم المنيف ولونه يكون أبيضاً ، ومن ينظر إلى المسجد النبوي في عصرنا يجد مصداق كلام رسول الله r .
الحديث يؤكد ما ذكرت أن آثار فتنة الدجال تكون على ذوي القلوب المريضة ، وهي من هذا الوجه ممحصة للقلوب ، و كاشفة لحقيقتها ، فقدوم الدجال نحو المدينة وحصاره لها ، ووقوع الرجفات الثلاثة – والله أعلم بحقيقتها – يحرك ذوي النفوس المريضة من أصحاب الشهوات والشبهات ، أو ممن يعبدون الله على حرف ، فيخرجون للدجال نصرة له ، وخروجهم خير للمؤمنين ؛ لذا سمى النبي r ذلك اليوم بيوم الخلاص ؛ أي خلاص المدينة من المنافقين، ولا يبقى فيها إلا الذهب الخالص الذي لا تزيده شدة النار إلا نقاوة وقوة و صفاءً .
/ - عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ r وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ لِي مَا يُبْكِيكِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتُ الدَّجَّالَ فَبَكَيْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } إِنْ يَخْرُجِ الدَّجَّالُ وَأَنَا حَيٌّ كَفَيْتُكُمُوهُ ، وَإِنْ يَخْرُجِ الدَّجَّالُ بَعْدِي فَإِنَّ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِأَعْوَرَ و، َإِنَّهُ يَخْرُجُ فِي يَهُودِيَّةِ أَصْبَهَانَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَدِينَةَ فَيَنْزِلَ نَاحِيَتَهَا وَلَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكَانِ فَيَخْرُجَ إِلَيْهِ شِرَارُ أَهْلِهَا حَتَّى الشَّامِ مَدِينَةٍ بِفِلَسْطِينَ بِبَابِ لُدٍّ . { ([128])
/ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : } عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ . { ([129])
/ - عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: } لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُـونَهَا ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ . { ([130])
/ - عن جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عن رجل من أصحاب النبي r عن النبي r قال عن الدجال : } يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ كُلَّ مَنْهَلٍ لَا يَأْتِي أَرْبَعَةَ : مَسَاجِدَ فَذَكَرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَالْمَسْجِدَ الْأَقْصَى وَالطُّورَ وَالْمَدِينَةَ { ([131])
شرح :
الأحاديث الخمسة الأولى تشير إلى أن الحرمين الشريفين هما من الأماكن المعصومة من الدجال ، والعصمة لا تقتصر على المسجدين فيهما بل تشمل جميع مكة والمدينة اللتين تحرسان من قبل الملائكة .
والحديث السادس أضاف موضعين آخرين وهما المسجد الأقصى والطور ، فهل تقتصر حراسة الملائكة على حدود المسجد الأقصى وجبل الطور ، ظاهر الحديث يشير إلى ذلك ، والمعلوم أن جيش المسلمين الذي يتصدى للدجال يكون في بيت المقدس .
ثانياً : آيات عاصمة :
/ - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ t أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ : } مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف – وفي رواية مِنْ آخِرِ الْكَهْفِ - عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ . { ([132])
/ - عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ : } مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ { ([133])
أقول :
- يلحظ من الحديث الأول – وهو المشهور - أنه ذكر حفظ العشر آيات الأوائل ، و عند الترمذي جاء من قرأ ثلاث آيات ، ويمكن الجمع بين الأمرين بعدة وجوه أرجحها عندي أن الحديث الأول اختص بالحفظ أما الحديث الثاني فاختص بالقراءة ، ويحتمل من قرأها في وجه الدجال ، يعزز ذلك قول الرسول r : } فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ { ([134])
وعلى هذا الوجه تكون العصمة من الدجال بحفظ عشر آيات وتدبر معانيها ، فإذا تعرض صاحبها للدجال وواجهه فليقرأ الآيات الثلاثة الأُولى عليه .
ويرى الألباني أن رواية الترمذي شاذة لمخالفتها رواية الثقات ، ووفق تضعيف الألباني لها يكون الأوجه ترجيح حفظ عشر آيات .
- الحديث يشير إلى فضيلة سورة الكهف ، وضرورة حفظها وتدبرها ، خاصة أولها وآخرها .
واختيار سورة الكهف للعصمة من فتنة الدجال فيه عدة تأويلات :
التأويل الأول :
لما يتضمن أولها وآخرها من العجائب والآيات التي يحصل لمن تدبرها عدم الاغترار بفتنة الدجال .
التأويل الثاني :
بسبب ما ورد فيها من ذكر لقصة أصحاب الكهف ، وما حصل معهم من عجائب فمن وقف عليها لم يستغرب أمر الدجال ، ولم يهله أمره ، فلم يفتتن به ، وهذا القول يستند على حفظ السورة بأكملها ؛ لأن العشر الأوائل من سورة الكهف لا تستوعب قصة أهل الكهف ، بل تشرع في ذكرها ، أو ذكر عنوان القصة ، ولعل الشروع فيها يترتب عليه معرفتها بأكملها ويكون ذكر العشر الأوائل من السورة على جهة الاستدراج في حفظها بأكملها ، أو على الأقل إتمام حفظ قصة أهل الكهف فيها ، ويعزز هذا القول ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : » من قرأ سورة الكهف كما أنزلت ثم خرج إلى الدجال لم يسلط عليه أو لم يكن له عليه سبيل .« ([135]) و ما ورد أن من حفظ سورة الكهف ثم أدركه الدجال لم يسلط عليه . ([136])
التأويل الثالث :
إن هذا من خصائص سورة الكهف ؛ حيث إن لها نوراً خاصاً لا يستطيعه الدجال ، كما أن لآية الكرسي نوراً خاصاً يمنع الشيطان من الاقتراب من صاحبها ، وكما أن لخواتيم سورة البقرة نوراً يترتب عليه كفاية صاحبها من كل مكروه ليلته إذا قرأها قبل منامه .
ومثل هذه الخصوصية معلومة في كثير من النصوص ، فبعض الآيات لها أثر في موضع ما أكثر من غيرها كتأثير لبعض الآيات المخصوصة على السحر وغيرها على المس الشيطاني ، فللقرآن أسراره ، وتأثير سورة الكهف على الدجال من أسرار القرآن التي أطلعنا عليها نبيه .
ويعزز ما ذكرنا حديث النواس بن سمعان أن من أدرك الدجال فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، وفي هذا إشارة إلى خصوصية لهذه الآيات مؤثرة على الدجال وصارفة لكيده وموهنة لسطوته .
وكذلك يعزز القول بخصوصية سورة الكهف هذا الأثر الذي أورده الإمام أحمد عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُ قَالَ : } مَنْ قَرَأَ أَوَّلَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآخِرَهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنْ قَدَمِهِ إِلَى رَأْسِهِ وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ . { ([137])
فسورة الكهف لها نور خاص بها ، ونور سورة الكهف لا يستطيع الدجال اختراقه كما لا يستطيع اختراق المدينة المنورة .
القول في التأويلات الثلاثة :
من نظر إلى التأويلات الثلاثة السابقة يجد أنها متقاربة ، وبعضها مترتب على الآخر ، فكون سورة الكهف لها خصوصية إنما يتصور لطبيعة المعاني المؤثرة في طياتها .
وحقيق على كل مسلم أن يتحصن بسورة الكهف حفظاً وتدبراً ويقيناً ؛ ليكون بذلك قد أعد سلاحه لمواجهة الفتنة العظمى .
ثالثا: العواصم العظمى : العلم والصبر واليقين .
يقول الله سبحانه وتعالى : } فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ { ([138]) وقال سبحانه وتعالى } وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ { ([139])
ذكرت سابقاً أماكن وآيات لها خصوصية عاصمة من فتنة الدجال ، لكن هذا لا يكفي ما لم يتوج برأس الأمر في تلك الفتنة ، وهو العلم والصبر واليقين ، صحيح أنك أخي المسلم قد تكون من قاطني الأماكن المعصومة كالمدينة المنورة مثلاً ، وصحيح أن الدجال لن يستطيع الدخول عليك في داخلها ، ولكن ما الذي يضمن لك أنك لن تخرج إليه بنفسك ، خاصة بعد الحصار الشديد والرجفات الثلاثة التي ترتجف بها المدينة .
فالموقع أو المكان لا يقدس أحداً ، إنما يقدسه عمله الذي قدمه ، فإن كنت من أهل العلم والإيمان والصبر واليقين ، فلا أثر للدجال عليك حتى لو قدر الله لك مواجهته بنفسك ، ولك عبرة في قصة الرجل الذي واجهه فما ازداد في هذه المواجهة -التي تضمنت عجائب عظمى - إلا إيماناً وتصديقاً ويأتي هنا تساؤل . ما الذي عصم هذا الرجل ؟ من تتبع قصته يرى أن ما عصمه هو ثلاثة أمور :
الأمر الأول : العلم بحقيقة هذه الفتنة ، وحدودها وطبيعتها ؛ لذا وجدنا أنه عندما رأى الآيات من الدجال،ما زاده ذلك إلا بصيرة وتصديقاً لما عهده من حديث رسول الله r .
الأمر الثاني : الصبر ، فقد تعرض لبلاء عظيم ، فما كان منه إلا الصبر الذي أعقبه الدرجات العظمى عند الله سبحانه وتعالى .
الأمر الثالث : اليقين ، وهو رأس الأمر كله ووعاؤه الذي يحفظ به كل خير ، فهو العاصم للصبر والعلم من تخلل الخور والضعف والغفلة والتأويل ، فقد يعلم الرجل فتنة الدجال وحقيقتها ؛ إلا أنه يضعف أمام الشدائد ، وتغزو الشبهات قلبه ، فيقع في المصيدة ، وقد علمنا أن بعض أتباع الدجال يعلمون أنه الدجال ، ولكن حرموا الصبر على الشدائد ، وغاب عن قلوبهم نتائج اتباعه ، و غابت شمس اليقين بحقيقة الدنيا والآخرة عن سماء قلوبهم فوقعوا .
واليقين هو روح الإيمان ونوره الذي يتلألأ في قلب المؤمن ، وهو خير ما وقر في القلب ، ويظهر أثره في عموم حياة المؤمن ، وخصوصاً في زمن الدجال ، فعندما تشتد عليه الأمور من حصار وجوع وغيره ، يأته اليقين بالله سبحانه وتعالى ووعده من جنات النعيم ، ويقينه بما أخبر به رسوله فيمده بما يصبره على تلك الشدائد ، ويجنبه عواصف الشبهات .
ومن آثار اليقين وضوح رؤيا المؤمن في ذلك الزمان ، فيرى كل دلائل كذب الدجال ، خاصة كلمة الكفر بين عينيه ، ومن آثار اليقين نجاة المؤمن من خلال مخالفة المشاهد وتصديق ما أخبر به النبي r فيفر من ماء الدجال الخادع ، ويقتحم ناره التي ليست على حقيقتها .
المطلب الثامن : طعام المؤمنين في زمان الدجال
/ - قال الله سبحانه وتعالى : } قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُـونُ لَنَا عِيـداً لِأَوَّلِنَا وَآخِـرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. { ([140])
/ - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r ذَكَرَ جَهْدًا شَدِيدًا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ الدَّجَّالِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : } يَا عَائِشَةُ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ . فَقُلْتُ : مَا يُجْزِئُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الطَّعَامِ ؟ قَالَ : مَا يُجْزِئُ الْمَلَائِكَةَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ قُلْتُ : فَأَيُّ الْمَالِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ ؟ قَالَ غُلَامٌ شَدِيدٌ يَسْقِي أَهْلَهُ مِنَ الْمَاءِ ، وَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا طَعَامَ .{ ([141])
/ - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله r سئل عن طعام المؤمنين في زمن الدجال فقال : } طَعَامُ الْمُؤمِنِينَ فِي زَمنِ الدَّجَالِ طَعَامُ المَلاَئِكَةِ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ يَوْمَئِذٍ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ أَذْهَبَ الله عَنْهُ الجُوعَ { ([142])
شرح :
يتضح من الحديثين السابقين ، وغيره من الأحاديث (_ ) أن المؤمنين لا يحرمون من عناية الله سبحانه وتعالى بهم ، فثباتهم على الحق وصبرهم عليه يثابون عليه خير الثواب ، باستغنائهم عما جبلوا عليه من طلب للطعام يسدون به رمقهم ، ويعتاضون به بطعام الملائكة وهو التسبيح .
الحديثان السابقان يشهد لهما واقع الكرة الأرضية قبل وفي زمان الدجال ؛ حيث يعم القحط الأرض قبل الدجال ، ويعزز ذلك الدجال في حربه على المؤمنين ، فيشح الطعام في أيديهم ، فيجزئهم عنه التسبيح الذي يجعله الله سبحانه وتعالى كرامة لهم سبباً في دفع الجوع كالطعام ، والأمر كله لله سبحانه وتعالى .
يتضح من الحديث الأول أن التسبيح يجزئ عن الطعام ، أما الشراب فنظراً لتوفر أسبابه بين أيديهم ببعض السعي ، فلا يعوضه التسبيح .
هذه الكرامة توضح لنا معنى قول الرسول r عن الدجال أنه أهون من ذلك ؛ أي أحقر من أن يقهر المؤمنين بقطع أسباب الحياة عنهم ، وما يراه المفتونون به من قطع أسباب الحياة كالطعام عن المؤمنين ، عوضه الله سبحانه وتعالى لهم بأمر خفي عن الناس ، وهو حصول الشبع أو سد رمق الجوع بأمر غير مرئي للناس .
والذي أنزل مائدة من السماء على عيسى r وأتباعه في أول أمره قادر على أن ينزل مائدة على أنصار ملة الحق ممن يستحقون نزول عيسى r في آخر أمره ، ولعل كون التأييد لأهل الحق في ذلك بطعام غير معهود فيه من الحكم الكثير ، منها : استدراج الدجال وأتباعه المفتونين به ؛ حيث يرون غروراً من أنفسهم أنهم قادرون على كل شيء ، وهذا من تمام الفتنة بهم والمد في غيهم وطغيانهم ، ومنها أن المؤمنين في ذلك يقع منهم ثبات غير معهود ، فناسب ذلك تأييد غير معهود ، ومنها أن المؤمنين في ذلك الوقت ناسب حالهم من الاستغناء عن الدجال وشهواته وطعامه ، أن يرزقوا صفة الاستغناء حقيقة عن أهم عناصر الحياة البشرية ، ومن يستغن يغنه الله ، ومنها أنهم استحقوا وهم في شدتهم وقيامهم على عمل الملائكة أن يكونوا مثلهم في الاستغناء عن الطعام .
المبحث الرابع
نهاية فتنة المسيح الدجال
أولاً : الحصار الشديد لبيت المقدس .
/ - } هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً { ([143])
/ - } أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ { ([144])
/ - عن ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبَّادٍ الْعَبْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ شَهِدْتُ يَوْمًا خُطْبَةً لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r وفيه : } .. وَإِنَّهُ سَيَظْهَرُ أَوْ قَالَ : سَوْفَ يَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَّا الْحَرَمَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَإِنَّهُ يَحْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَيُزَلْزَلُونَ زِلْزَالًا شَدِيدًا ، ثُمَّ يُهْلِكُهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجُنُودَهُ حَتَّى إِنَّ جِذْمَ الْحَائِطِ أَوْ قَالَ : أَصْلَ الْحَائِطِ وَأَصْلَ الشَّجَرَةِ لَيُنَادِي أَوْ قَالَ : يَقُولُ : يَا مُؤْمِنُ أَوْ قَالَ : يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ أَوْ قَالَ : هَذَا كَافِرٌ تَعَالَ فَاقْتُلْهُ . قَالَ : وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى تَرَوْا أُمُورًا يَتَفَاقَمُ شَأْنُهَا فِي أَنْفُسِكُمْ ، وَتَسَاءَلُونَ بَيْنَكُمْ هَلْ كَانَ نَبِيُّكُمْ ذَكَرَ لَكُمْ مِنْهَا ذِكْرًا ؟ وَحَتَّى تَزُولَ جِبَالٌ عَلَى مَرَاتِبِهَا ثُمَّ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ الْقَبْضُ . { ([145])
شرح الغريب :
جذم : أصل
الحائط : البستان ، وجذم الحائط أي أصل البستان .
ثانياً : نهاية الدجال وشيعته .
/ - عن مُجَمِّعَ ابْنَ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيَّ t قال : قال رَسُولَ اللَّهِ r : } يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ . { ([146])
/ - عن جابر t قال : قال رسول الله r : } .. وَيَبْعَثُ اللَّهُ مَعَهُ – أي الدجال - شَيَاطِينَ تُكَلِّمُ النَّاسَ ، وَمَعَهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ يَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ فِيمَا يَرَى النَّاسُ وَيَقْتُلُ نَفْسًا ثُمَّ يُحْيِيهَا فِيمَا يَرَى النَّاسُ لَا يُسَلَّطُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ النَّاسِ وَيَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ ! هَلْ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا إِلَّا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ : فَيَفِرُّ الْمُسْلِمُونَ إِلَى جَبَلِ الدُّخَانِ بِالشَّامِ ، فَيَأْتِيهِمْ فَيُحَاصِرُهُمْ فَيَشْتَدُّ حِصَارُهُمْ وَيُجْهِدُهُمْ جَهْدًا شَدِيدًا ، ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُنَادِي مِنَ السَّحَرِ فَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى الْكَذَّابِ الْخَبِيثِ ، فَيَقُولُونَ : هَذَا رَجُلٌ جِنِّيٌّ ، فَيَنْطَلِقُونَ فَإِذَا هُمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ r ، فَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَيُقَالُ لَهُ : تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَيَقُولُ : لِيَتَقَدَّمْ إِمَامُكُمْ فَلْيُصَلِّ بِكُمْ ، فَإِذَا صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ خَرَجُوا إِلَيْهِ . قَالَ فَحِينَ يَرَى الْكَذَّابُ يَنْمَاثُ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَيَمْشِي إِلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ حَتَّى إِنَّ الشَّجَرَةَ وَالْحَجَرَ يُنَادِي يَا رُوحَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ فَلَا يَتْرُكُ مِمَّنْ كَانَ يَتْبَعُهُ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ { ([147])
شرح الغريب :
ينماث : يذوب
/ - عن النواس بن سمعان t عن الرسول r من حديث طويل عن الدجال : } إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ ، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ … { ([148])
/ - عن أبي أمامة الباهلي t عن رسول الله r في حديث طويل عن الدجال ، وفيه : } .. وَجُلُّهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ ، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الصُّبْحَ ، فَرَجَعَ ذَلِكَ الْإِمَامُ يَنْكُصُ يَمْشِي الْقَهْقَرَى لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : تَقَدَّمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ فَإِذَا انْصَرَفَ . قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام : افْتَحُوا الْبَابَ فَيُفْتَحُ وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُو سَيْفٍ مُحَلًّى وَسَاجٍ فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، وَيَنْطَلِقُ هَارِبًا ، وَيَقُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: إِنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَسْبِقَنِي بِهَا ، فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ اللُّدِّ الشَّرْقِيِّ ، فَيَقْتُلُهُ فَيَهْزِمُ اللَّهُ الْيَهُودَ ، فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ يَتَوَارَى بِهِ يَهُودِيٌّ إِلَّا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا حَجَرَ وَلَا شَجَرَ وَلَا حَائِطَ وَلَا دَابَّةَ إِلَّا الْغَرْقَدَةَ ،- فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لَا تَنْطِقُ - إِلَّا قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمُسْلِمَ هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ .. { ([149])
/ - عن حذيفة بن أسيد t قال : » فيرد كل منهل فتطوى له الأرض طي فروة الكبش حتى يأتي المدينة فيغلب على خارجها ويمنع داخلها ثم جبل إيلياء فيحاصر عصابة من المسلمين فيقول لهم الذين عليهم ما تنتظرون بهذا الطاغية أن تقاتلوه حتى تلحقوا بالله أو يفتح لكم فيأتمرون أن يقاتلوه إذا أصبحوا فيصبحون ومعهم عيسى بن مريم فيقتل الدجال ويهزم أصحابه حتى أن الشجر والحجر والمدر يقول يا مؤمن هذا يهودي عندي فاقتله قال وفيه ثلاث علامات هو أعور وربكم ليس بأعور ومكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن أمي وكاتب ولا يسخر له من المطايا إلا الحمار فهو رجس على رجس .. « ([150])
شرح الغريب :
فروة الكبش : أي جلد الكبش ، وذلك كناية عن سرعة تحرك الدجال
جبل إيلياء : أي مدينة بيت المقدس ، وفي هذه الرواية كان التحصن بجبل إيلياء وفي رواية جابر جاء التصريح بأن المؤمنين يحاصرون في جبل الدخان ، فهل جبل الدخان أحد جبال إيلياء ، أو هو جبل آخر الأمر محتمل .
خلاصة القول في حصار بيت المقدس ونهاية الدجال .
بعد حصار الدجال للمدينة وقد منعته الملائكة منها ، وحدوث الرجفات الثلاثة وخروج شرار المدينة ليتبعوا الدجال ، وهو يوم الخلاص ، يعلم الدجال أنه لا مجال له مع أهل المدينة المنورة ، فيبدأ بالتحرك نحو بيت المقدس الذي تتواجد فيه القوة الأكبر من المسلمين وإمامهم ، وطبعاً يكون عدد المسلمين بعد هذه الفتنة قليلاً جداً (_ ) ، وفي طريقه لبيت المقدس يحصد الدجال من بقي في طريقه من قبائل ، ويتبعه شرار تلك البقاع إلى أن يصل إلى بيت المقدس ، وهناك يبدأ الحصار العظيم لأهل الحق .
يلحظ من الأحاديث السابقة أن جل جيش الدجال من اليهود ، وذكرت بعض الأحاديث أن عددهم سبعون ألفاً ، وهو نفس العدد الذي كان معه حين خروجه من أصبهان ، والكلام هنا يحتمل أن يراد بالسبعين في المعركة الأخيرة الكثرة وليس الحصر في عدد معين ، وهذا معهود في كلام العرب ، ويحتمل أن عددهم حقيقة هو سبعون ألفاً ، وهذا فيه إشارة عجيبة ، وهي أن غير يهود أصبهان قد حصدتهم الملاحم قبل خروج الدجال ، وإلا لو كان لهم وجود في بقاع أخرى لوجدنا أن العدد الذي تحرك من بداية فتنة الدجال من المشرق والمصرح بأنهم سبعون سيزيد بصورة ملحوظة بعد سيطرة الدجال على جميع بقاع العالم ، ولما لم يرد أي أثر يشير إلى زيادة العدد ، دل ذلك على أن غير يهود أصبـهان لا وجود لهم في زمن الدجال .
التصريح بكون جند الدجال هم من اليهود لا ينفي وجود غيرهم من جنوده ، لكن فيه إشارة إلى أن القاعدة الصلبة البارزة من جند الدجال في هذه المعركة هم من اليهود ، ولعل استدراجهم لمعركة فلسطين بالذات له علاقة إما بوعد ملك السلام ( الدجال) لهم بدولتهم في أرض الميعاد ، وإما هي نزعة انتقام لقريب عهدهم بزوال دولتهم فيها ، فيأتون ليستردوا ملكهم السليب .
يتضح من الروايات المتعددة أن حال المؤمنين يكون شديداً جداً ، فهم في حصار وتجويع ، وخوف من هذا الرجل الطاغية الذي يشبه الجن في أفعاله ، وقد صرح بعض المؤمنين بأنه – أي الدجال - جني (_ ) ورأوا من دلالات حالهم أنهم لا يقدرون عليه ، وفي بعض الروايات أنهم أرسلوا له طليعة فماتت جميعاً ؛ لذا وجدوا أن أسلم طريقة لهم هو التحصن في جبل الدخان كما في رواية ، وفي رواية أخرى جبل إيلياء ، ودلائل السياق تشير إلى أنهما جبل واحد ذكر مرة نسبة إلى الموقع ومرة بما يشتهر به عند الناس أو بما يتصف به عند حصار الدجال له حيث يلف الجبل الضباب بما يشبه الدخان وهذا المعنى صرح به أثر آخر عن عبد الله بن عمرو سأذكره في الصفحة التالية .
تذكر بعض الروايات أن عيسى r ينزل عند المنارة البيضاء شرق دمشق ، وبعضها يشير إلى أنه ينزل عليهم في بيت المقدس أو في الجبل الذي يحاصرون فيه ، ومن تأمل الأحاديث ملياً يجد أنه لا تعارض بينها إذا تصور طبيعة المعركة ، فالدجال قد جاء للمسلمين من ناحية الجنوب أي من ناحية المدينة المنورة ؛ وأول مواجهة له مع المسلمين كانت في ناحية بيت المقدس ، وهذا طبعاً لا يعني أن غير بيت المقدس من الشام ليس فيه مسلمون ، خاصة ناحية دمشق التي كانت معقل المسلمين في الملاحم ، بل كان فيها مسلمون ، لكن ثغر المواجهة كان في بيت المقدس ، وببطن الأردن ، يؤيد ما ذكرت ما ورد في الأحاديث أنه يحاصر عصابة من المسلمين ، ووفقاً لهذا السياق نستطيع أن نقول بأن نزول عيسى r من السماء كان على المنارة البيضاء شرق دمشق ، حيث عاين أهلها ذلك النزول ، ومنها تحرك ناحية ثغر المسلمين الذي حوصروا فيه ، وفي أثر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما » فبينا هم تحت ضبابة من غمام إذ تكشف عنهم الضبابة مع الصبح ، فإذا بعيسى بن مريم بين ظهرانيهم . « ([151]) فهذا الأثر يعزز ما ذكرت ، وهذه العصابة فيها بيضة المسلمين وقوتهم وإمامهم ، وعندهم يرفض أن يؤم بالمسلمين ، ويتركها للإمام تكرمة لهذه الأمة ، وورد في الآثار السابقة أنه تكلم بينهم محرضاً لهم على الخروج على الدجال ، فلما انتبهوا للمتكلم وجدوه أنه عيسى r فعلموا أن الفرج قد جاء ، وأن عيسى r قد نزل من السماء ، أما لحظة نزوله من السماء فقد عاينها أهل دمشق بأنفسهم، على خلاف أهل ثغر بيت المقدس .
الأحاديث واضحة الدلالة أن نزول عيسى r كان قبل صلاة الفجر ، وفي أثر عن أبي هريرة أنه ينزل بين أذانين ([152]) ، ولا أعلم هل يراد به بين الأذان والإقامة ، أو يراد بين الأذان الأول والثاني عند الفجر ، وكلاهما محتمل وإن كان الأول أوجه في هذا المقام و يعززه السياق .
في الأحاديث إشارة واضحة إلى أن نزول عيسى r كان في أحلك الظروف وأشدها على المسلمين حيث بلغ الحصار مداه منهم ، واستعـدوا للقاء الدجـال
ومواجهته مهما كانت النتائج .
الملاحظ أن تلك الفترة لا يؤيد بها المسلمون بعيسى r ، بل يؤيدون بكل مسبح حولهم من شجر وحجر فيتدخلون في المعركة للنيل من شيعة الدجال .
تأييد المسلمين بعيسى عليه السلام وبالشجر والحجر كان بعد صدق المؤمنين وثباتهم على الدين ونجاحهم في الاختبار ، فناسب ذلك أن يؤيدوا تأييداً حقيقياً بالخوارق التي أبطلت خوارق وكيد وسطوة الدجال المزيفة .
فتنة الدجال على عظمتها انتهت بأهون الأسباب ، وهو نفس واحد من عيسى r ذاب معه الدجال كما يذوب الملح ، وهذا مثل واضح على أن قوة الباطل مهما عظمت فهي خيوط عنكبوت .
يتضح من حديث النواس بن سمعان أن عيسى r يأتي بعد نهاية المعركة إلى من عصمهم الله سبحانه وتعالى من الدجال ، فيمسح على وجوههم ويبلغهم بدرجاتهم في الجنة ، فكما أنه كان في زمان النبي محمد r من يمشي على الأرض وهو من أهل الجنة كذلك يختم بنفس الأمر بأن يمشي على الأرض من هو من أهل الجنة في عهد عيسى r ، وما بينهما من أمة محمد r فيوكل أمره إلى الله .
المبحث الخامس
المطولات من أحاديث الدجال
هذا المبحث آثرت أن أذكر فيه الأحاديث الطويلة المفصلة لفتنة الدجال وما قبلها وما بعدها ، وسأقتصر على شرح الأمور التي لم أذكرها سابقاً في المواطن التفصيلية ، وأقصد من ذكر هذه الأحاديث بقسم خاص أمرين .
الأول : هذه الأحاديث الطويلة تبين طبيعة فتنة الدجال بشكل تسلسلي ، وتصورها بشكل متكامل يعين على فهمها .
الثاني : هذه الأحاديث كنت قد اجتزأت منها - خاصة الحديثين الأولين - في المواطن التفصيلية بما يناسب كل مكان ؛ لذا رأيت هنا أن أذكرها حسب روايتها الطويلة ليلتئم في نظر القارئ مجموع الأجزاء التي اجتزأتها ، ولا يلتبس عليه الأمر إذا أراد أن يرجع إلى المصادر الأصلية .
/ - -عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ t قَالَ : } ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ r الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا .
فَقَالَ r : مَا شَأْنُكُمْ ؟
قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ .
فَقَالَ r : غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ ؟ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ ، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا ، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا !
قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ ؟
قَالَ r : أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ .
قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ ؟
قَالَ r : لَا اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ .
قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ ؟
قَالَ : كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ ، فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا ، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا : أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ ، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ … { ([153])
شرح الغريب :
خفض فيه ورفع : معناه أن النبي r حقر الدجال بما وصفه من أوصاف النقص ، وعظم فتنته والمحنة التي يمر بها الناس في زمانه ، وقيل خفض صوته بعد طول كلام ليستريح ثم رفعه ، ويحتمل أن يراد به أن النبي r قرب زمان حدوث فتنته وباعد فيه ، ومـن نظر لسياق الحديث يرى أنه يشهد لهذا الاحتمال .
كالغيث استدبرته الريح : مثال يشير إلى أن سرعته شديدة لا تدرك كما وكيفياً كما لا تدرك سرعة الغيث الذي تحركه العواصف كما وكيفاً .
فتروح عليهم سارحتهم : أي ترجع عليهم ماشيتهم ليلاً بعد خروجها للمرعى
ذراً : جمع من الذروة ويراد به الأسنمة ؛ أي تعود الأسنمة ممدودة لكثرة الخير
أسبغه ضروعاً : كناية عن كثرة اللبن ، والضروع جمع ضرع وهو الثدي .
أمده خواصر : الخاصرة هي ما تحت الجنب ومدها كناية عن الامتلاء وكثرة الأكل .
ممحلين : المحل القحط
كيعاسيب النحل : اليعسوب أمير النحل ، والكلام فيه قلب والأصل كنحل اليعاسيب ، لأن النحل تتبع اليعسوب .
جزلتين : قطعتين
رمية الغرض : بقدر تحديد الهدف ، ويراد به هنا أن الدجال يقطعه قطعتين لا شك فيها كما يحصل عند السحرة ، أي بعد أن يقطعه قطعتين يجعل بينهما فراغاً بقدر ما يستطيع الرامي أن يرمي بينهما سهمه .
بين مهرودتين : أي لابس ثوبين مصبوغين ، وقيل هما شقتان والشقة نصف الملاءة .
جمان : حبات من الفضة تصنع كهيئة اللؤلؤ .
/ - عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ r فَكَانَ أَكْثَرُ خُطْبَتِهِ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ عَنِ الدَّجَّالِ وَحَذَّرَنَاهُ فَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ قَالَ : } إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ ، وَأَنَا آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ ، وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لَا مَحَالَةَ ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ فَأَنَا حَجِيجٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَإِنْ يَخْرُجْ مِنْ بَعْدِي فَكُلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، فَيَعِيثُ يَمِينًا وَيَعِيثُ شِمَالًا . يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا فَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي ، إِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَقُولُ أَنَا نَبِيٌّ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي ثُمَّ يُثْنِّي فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ وَلَا تَرَوْنَ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا ، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ ، وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ أَوْ غَيْرِ كَاتِبٍ ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ فَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ الْكَهْفِ فَتَكُونَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتِ النَّارُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَقُولَ لِأَعْرَابِيٍّ : أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأُمَّكَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ . فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيْطَانَانِ فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَقُولَانِ : يَا بُنَيَّ اتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ رَبُّكَ ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَيَقْتُلَهَا وَيَنْشُرَهَا بِالْمِنْشَارِ حَتَّى يُلْقَى شِقَّتَيْنِ ثُمَّ يَقُولَ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا فَإِنِّي أَبْعَثُهُ الْآنَ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي ، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ وَيَقُولُ لَهُ : الْخَبِيثُ مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ ك رَبِّيَ اللَّهُ ، وَأَنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ ، أَنْتَ الدَّجَّالُ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ بَعْدُ أَشَدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ قَالَ r : ذَلِكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ ، قال : وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ وَيَأْمُرَ الْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُكَذِّبُونَهُ فَلَا تَبْقَى لَهُمْ سَائِمَةٌ إِلَّا هَلَكَتْ وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُصَدِّقُونَهُ فَيَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ ، وَيَأْمُرَ الْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ حَتَّى تَرُوحَ مَوَاشِيهِمْ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ أَسْمَنَ مَا كَانَتْ وَأَعْظَمَهُ وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ وَأَدَرَّهُ ضُرُوعًا وَإِنَّهُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَطِئَهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَا يَأْتِيهِمَا مِنْ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهِمَا إِلَّا لَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّيُوفِ صَلْتَةً ، حَتَّى يَنْزِلَ عِنْدَ الظُّرَيْبِ الْأَحْمَرِ عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبَخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ فَتَنْفِي الْخَبَثَ مِنْهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَيُدْعَى ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْخَلَاصِ فَقَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ أَبِي الْعَكَرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : هُمْ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ وَجُلُّهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ ، فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الصُّبْحَ فَرَجَعَ ذَلِكَ الْإِمَامُ يَنْكُصُ يَمْشِي الْقَهْقَرَى لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : تَقَدَّمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ . فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام افْتَحُوا الْبَابَ فَيُفْتَحُ وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُو سَيْفٍ مُحَلًّى وَسَاجٍ فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، وَيَنْطَلِقُ هَارِبًا وَيَقُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام : إِنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَسْبِقَنِي بِهَا فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ اللُّدِّ الشَّرْقِيِّ ، فَيَقْتُلُهُ فَيَهْزِمُ اللَّهُ الْيَهُودَ ، فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ يَتَوَارَى بِهِ يَهُودِيٌّ إِلَّا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، لَا حَجَرَ ، وَلَا شَجَرَ ، وَلَا حَائِطَ ، وَلَا دَابَّةَ - إِلَّا الْغَرْقَدَةَ فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لَا تَنْطِقُ - إِلَّا قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمُسْلِمَ هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r وَإِنَّ أَيَّامَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً السَّنَةُ كَنِصْفِ السَّنَةِ وَالسَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَآخِرُ أَيَّامِهِ كَالشَّرَرَةِ يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَلَا يَبْلُغُ بَابَهَا الْآخَرَ حَتَّى يُمْسِيَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْقِصَارِ ؟ قَالَ : تَقْدُرُونَ فِيهَا الصَّلَاةَ كَمَا تَقْدُرُونَهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الطِّوَالِ ؟ ثُمَّ صَلُّوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : فَيَكُونُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أُمَّتِي حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا يَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَذْبَحُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَتْرُكُ الصَّدَقَةَ فَلَا يُسْعَى عَلَى شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ وَتُرْفَعُ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ ، وَتُنْزَعُ حُمَةُ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ حَتَّى يُدْخِلَ الْوَلِيدُ يَدَهُ فِي فِي الْحَيَّةِ فَلَا تَضُرَّهُ ، وَتُفِرَّ الْوَلِيدَةُ الْأَسَدَ فَلَا يَضُرُّهَا ، وَيَكُونَ الذِّئْبُ فِي الْغَنَمِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا ، وَتُمْلَأُ الْأَرْضُ مِنَ السِّلْمِ كَمَا يُمْلَأُ الْإِنَاءُ مِنَ الْمَاءِ ، وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ وَاحِدَةً فَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللَّهُ ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ، وَتُسْلَبُ قُرَيْشٌ مُلْكَهَا وَتَكُونُ الْأَرْضُ كَفَاثُورِ الْفِضَّةِ تُنْبِتُ نَبَاتَهَا بِعَهْدِ آدَمَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الْقِطْفِ مِنَ الْعِنَبِ فَيُشْبِعَهُمْ ، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الرُّمَّانَةِ فَتُشْبِعَهُمْ ، وَيَكُونَ الثَّوْرُ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ وَتَكُونَ الْفَرَسُ بِالدُّرَيْهِمَاتِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُرْخِصُ الْفَرَسَ ؟ قَالَ : لَا تُرْكَبُ لِحَرْبٍ أَبَدًا قِيلَ لَهُ فَمَا يُغْلِي الثَّوْرَ؟ قَالَ : تُحْرَثُ الْأَرْضُ كُلُّهَا . وَإِنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ شِدَادٍ يُصِيبُ النَّاسَ فِيهَا جُوعٌ شَدِيدٌ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى أَنْ تَحْبِسَ ثُلُثَ مَطَرِهَا ، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا ثُمَّ يَأْمُرُ السَّمَاءَ فِي الثَّانِيَةِ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ مَطَرِهَا وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ فَتَحْبِسُ مَطَرَهَا كُلَّهُ فَلَا تُقْطِرُ قَطْرَةً وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ فَلَا تُنْبِتُ خَضْرَاءَ فَلَا تَبْقَى ذَاتُ ظِلْفٍ إِلَّا هَلَكَتْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ قِيلَ : فَمَا يُعِيشُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ؟ قَالَ : التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَيُجْرَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مُجْرَى الطَّعَامِ. { قَالَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيَّ : ) يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَى الْمُؤَدِّبِ حَتَّى يُعَلِّمَهُ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ ( ([154])
شرح الغريب :
ذرأ : خلق حجيج : الخصم الغالب في الحجة والبرهان .
سائمة : الدواب التي ترعى البراري ولا تعلف
أمده خواصر : كناية عن كثرة الامتلاء والأكل أذره ضروعاً : كناية عن كثرة لبن الثدي
نقب : الطريق في الجبل ، وقيل الفرجة بين الجبلين السبخة : الأرض المالحة التي لا تنبت .
الخبث : الأوساخ والشوائب . الكير : آلة لنفخ النار وإشعالها .
القهقرى : الرجوع إلى الوراء القسط : العدل
ويضع الجزية : أي يسقط ما يدفعه أهل الذمة للمسلمين ، والمراد به أنه لا يقبل أهل ذمة في زمانه .
الحمة : السم ، والمراد لذغة العقرب .
/ عن سمرة بن جندب t عن رسول الله r في خطبته بعد كسوف الشمس حيث قال : } .. أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ رِجَالًا يَزْعُمُونَ أَنَّ كُسُوفَ هَذِهِ الشَّمْسِ وَكُسُوفَ هَذَا الْقَمَرِ ، وَزَوَالَ هَذِهِ النُّجُومِ عَنْ مَطَالِعِهَا ، لِمَوْتِ رِجَالٍ عُظَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ ، وَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا وَلَكِنَّهَا آيَاتٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَعْتَبِرُ بِهَا عِبَادُهُ ، فَيَنْظُرُ مَنْ يُحْدِثُ لَهُ مِنْهُمْ تَوْبَةً ، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ قُمْتُ أُصَلِّي مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ فِي أَمْرِ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابًا آخِرُهُمْ الْأَعْوَرُ الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى كَأَنَّهَا عَيْنُ أَبِي يَحْيَى ، لِشَيْخٍ حِينَئِذٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَإِنَّه مَتَى يَخْرُجُ فَإِنَّهُ سَوْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ اللَّهُ فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ صَالِحٌ مِنْ عَمَلِهِ سَلَفَ ، وَمَنْ كَفَرَ بِهِ وَكَذَّبَهُ لَمْ يُعَاقَبْ بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ ، - وَقَالَ حَسَنٌ الْأَشْيَبُ : بِسَيِّئٍ مِنْ عَمَلِهِ سَلَفَ - وَإِنَّهُ سَيَظْهَرُ أَوْ قَالَ : سَوْفَ يَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا إِلَّا الْحَرَمَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ وَإِنَّهُ يَحْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيُزَلْزَلُونَ زِلْزَالًا شَدِيدًا ثُمَّ يُهْلِكُهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجُنُودَهُ حَتَّى إِنَّ جِذْمَ الْحَائِطِ أَوْ قَالَ: أَصْلَ الْحَائِطِ - وَقَالَ حَسَنٌ الْأَشْيَبُ : وَأَصْلَ الشَّجَرَةِ - لَيُنَادِي أَوْ قَالَ يَقُولُ يَا مُؤْمِنُ أَوْ قَالَ : يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ أَوْ قَالَ : هَذَا كَافِرٌ تَعَالَ فَاقْتُلْهُ قَالَ : وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى تَرَوْا أُمُورًا يَتَفَاقَمُ شَأْنُهَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَتَسَاءَلُونَ بَيْنَكُمْ هَلْ كَانَ نَبِيُّكُمْ ذَكَرَ لَكُمْ مِنْهَا ذِكْرًا وَحَتَّى تَزُولَ جِبَالٌ عَلَى مَرَاتِبِهَا – وفي رواية الحاكم وابن أبي شيبة : عن مراسيها - { ([155])
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق